قاسم حسن محاجنة

غسان كنفاني في فيينا .
في الماضي الذي كان سحيقاً ذات يوم، كتب غسان روايته القصيرة، رجال في الشمس، ولمن لا يعرفها نقول بأنها قصة شبان فلسطينيين يحاولون دخول الكويت متسللين في خزان مغلق لناقلة ماء، بحثا عن فرصة عمل ،لكن يحدث ما لم يكن بالحسبان، ويُعيقهم رجال شرطة الحدود الكويتيون ،في قيظ الكويت تحت الشمس اللاهبة، فيموتون اختناقا في الخزان المُغلق.
لا يُساورني أدنى شك بأن بعض من قرأ هذه الرواية، تعامل مع احداثها كنوع من المبالغة الأدبية وبأنها لا تُصور واقعا حياتيا معينا ، خاصة وأن الخطاب العربي الرسمي والشعبي حينها، كان يتعامل مع القضية الفلسطينية بكل التعاطف ومشاعر الأخوة، ولا يُمكن بأي حال من الأحوال أن تُغلق دولة عربية أبوابها ، في وجه لاجيء فلسطيني يبحثُ عن عمل .
وهذا الأسبوع تناقلت وسائل الإعلام خبراً عن اكتشاف جثث لأكثر من سبعين مهاجرا غير شرعي، يُقال بأنهم سوريون ، قضوا نحبهم اختناقا في شاحنة مغلقة ، وُجدت مشرعة الأبواب في فيينا، ويُخمن البعض بأن سائقها فتح ابوابها لكي تكتشف الشرطة جثث الموتى. ولا يهم في هذا السياق، نوع جنسية السائق ومن أين أتت.
وفي البحر، تنتشل الدول الاوروبية جثامين مهاجرين غرقى، خاضوا لجة البحر بقوارب بالية متهرئة، حملّها اصحابها اضعافا مضاعفة من البشر، تفوق طاقة حمولتها، بعضهم فوق البعض الآخر، لعل يبتسم لهم الحظ، ويفوزوا بالدخول إلى الجنة الأوروبية الموعودة.
وسواء أولئك الذين ركبوا شاحنة مغلقة تتسع ربما لعشرة اشخاص ،أو المئات الذين “يركبون “خشبة” طافية، فانهم يعلمون بأنه ومهما حدث لهم فهو افضل من حياتهم السابقة ،وأظنهم يعلمون بأنهم يقامرون بحياتهم وهم في حالة وعي كامل .
أنهم يهربون من جحيم بلدانهم الى “حضن” الموت الارحم بهم وبحالهم من قياداتهم واخوتهم في الوطن والدين ، أما الذين يؤدون دور عزرائيل في “عملية قبض الارواح الجماعية “، فهم أصحاب الشاحنات التي يرصون بداخلها عشرات الاشخاص فوق طاقتها، واصحاب القوارب “القراصنة” الذين يستغلون كل شبر على سطح وفي جوف قواربهم ، طمعا بالمال بالطبع والكثير من المال.
لم نسمع، ولا عن حالة واحدة فقط، قامت دولة من الدول المتمدنة، قامت فيها بتقديم “ابناء عزرائيل” هؤلاء الى المحاكمة. فالدول مشغولة بإغلاق حدودها أمام هذا التسونامي من المهاجرين، الذين يفرون من بلدانهم المنكوبة بأنظمة صديقة للغرب، أو كانت للولايات المتحدة يدٌ في تحويلها الى جحيم، عبر خلق وتسليح وحوش كداعش بواسطة وكلائها المحليين الذين يزودونهم بالمال والأيديولوجيا ، كمهلكة آل سعود وامبراطورية العثمانيين الجدد.
طبعا فأنا لا أُبريءُ هذه الشعوب المنكوبة بأنظمة الفساد، والموبوءة بمفارخ القتلة من الشراكة “مع عزرائيل”، ففي النهاية بيدها، وبدل الهروب الى احضان الموت في فيينا، على سبيل المجاز، كان بإمكانها وما زال طبعا بإمكانها، أن تُرسل القتلة وأسيادهم الى احضان الموت المجازي، أو على الأقل تجفيف منابع الإرهاب، وعدم “شرعنته”.
يُؤمن أبناء عمومتنا اليهود، بأنه يعيش بين ظهراني البشرية 36 رجلا من الأتقياء(طبعا يتغيرون)، والذين بفضلهم وبفضل تقواهم لا يخسف الله الأرض على رؤوس ساكنيها.
ويؤسفني أن أقول لأبناء العم بأن ما يجري على فقراء الكون من أهوال وكوارث، لا يدعم ايمانهم بوجود هؤلاء الأتقياء.

اترك تعليقاً