تايتانيك العرب أجمل

 

باسمة عيسى / إعلامية و كاتبة صحفية

 

لم يكن يعلم جيمس كاميرون مخرج الفيلم الشهير تايتانيك ، و المستوحى من قصة واقعية ، أن جمال لوحات الطبيعة اقوى بكثير من خدعه السينمائية ، و لم يكن البطلان كيت و ليوناردو يعلمان أن مياه امطار طبيعية تقل اهمية عن درجة عاصفة قد تغمر يوما ما منازل مواطنين آمنين و تجبرهم على السباحة من غرفة الى غرفة كما مشهد الفيلم تماما ، و لم يكن سكان البندقية الايطالية يتوقعون ان تنافسهم مدينة ما في العالم جمال مدينتهم العائمة الغارقة ، نعم انه تايتانيك العرب.

بأقل من ثلاث ساعات على بدء هطول الامطار التي تنذر بقدوم الخير و البركة ، منها تمتلئ آبارنا و مياهنا الجوفية و يرتفع منسوب انهارنا من المياه ، و تروى الاراضي الشاسعة الواسعة بدقائق ، و منها  تسقى الاشجار و تنضج الثمار بسرعة خيالية ، من الامطار تنظف الشوارع و السيارات و الابنية ، يعود كل شيء كما لو كان جديد . و من الامطار ايضا نستعيد ذاكرة التايتانيك و لكن بإخراج و دبلجة عربية .

شوارع غارقة ، ألواح معدنية و خشبية كبيرة تطوف بين الاحياء مستعينة بسواعد راكبيها للتحرك ، ربما لن نستغرب اذا شاهدنا قاربا كهربائيا يستعرض مهاراته بين الابنية و المحلات التى تحولت الى برك من المياه نتيجة انسداد مصارف المياه في الشوارع التي تفتقد اساسا لمقومات البنية التحتية  المجهزة لاستقبال الامطار و خاصة في المدن ، طلاب مدارس اثقلتهم حقائبهم المدرسية فما استطاعوا إلا الغوص في العمق تاركين كتبهم تسبح الى جانبهم و منهم من استطاع انقاذ نفسه و الحقيبة فتعلق على باب او مشى مخاطرا بنفسه فوق سياج حديدي مرتفع ، شباب يعبرون الطرقات الى اشغالهم ذهابا و ايابا عبور نهر جار قد يفوق نهر دجلة غزارة ، شوارع بأكملها مغلقة ، مشوار خمس دقائق يستغرق منك 5 ساعات ، مشهد اذا لم يكن تسونامي الغرب فلن تجده الى في بعض الدول العربية.

هذا ما حدث ، أول الغيث انذرنا بحدوث كوارث انسانية كبيرة ، و السبب ، حكومات متعاقبة اجتمعت على السرقة و اختلفت في اساليبها و ابداعاتها في النصب و الغش و الاحتيال ، لا بنى تحتية تليق بالمدن ، ولا دولة مجهزة لإدارة الكوارث ، ولا رقيب ولا حسيب على الاموال المنهوبة و المليارات المسروقة تحت مسمى (خطط انمائية) ، كم من مشروع مقبوض سلفا مُرر حبراً على ورق ، و كم من استثمار ارهق جيوب المواطنين و نفسيتهم بقي قيد الانشاء الى اجل غير مسمى ، و كم من امثلة كثيرة على هذا النسق . الحديث عن المدن لا يشمل مأساة الاهالي النازحين المتروكين لمصيرهم في الخيم و التجمعات على اطراف المدن، اولائك لهم رب يحميهم ، و مهما تحدثنا عنهم لن نلامس اطراف مآسيهم ، فلنبقى في الصواعق الكهربائية التى قتلت قاطني المدن نتيجة التماس كهربائي نجم عن الهطول الكثيف للأمطار ، و اختلاط شبكات الصرف الصحي بالكوابل الكهربائية بطريقة او بأخرى ،  يبدو ان المشهد القادم سيكون اصعب من أي وقت مضى مع ارتفاع عدد السارقين مقابل انخفاض منسوب محاسبتهم ، تناسب عكسي غير مقبول في دول من المفترض انها بنيت على الدساتير و القوانين التى تحفظ كرامة و حقوق الانسان.

يذكرني منظر الشاب الواقف خلف باب منزله القديم في احدى المدن العراقية مراقبا دخول المياه بشدة من زوايا الباب ، بمشهد لينا ، عندما انتظرت قدوم عدنان في غرفتها داخل الباخرة الغارقة لينقذها ، فجأة يكسر الباب و تغمر الغرفة بالمياه و يسبح عدنان و لينا الى الافق حيث الشمس و النور و الحياة ، و لكن أي افق و أي نور و أي حياة تنتظر هذا الشاب اذا ما كسر الباب و غمرت المياه منزله .

رفقا بنا ، لقد حولتم النعمة الى نقمة ، ما عاد ينفعنا الشتاء ولا عادت الشمس تغذينا ولا عاد الربيع ربيعا ولا الخريف يغنينا ، كل نعمة تحولت الى نقمة بسبب الحيتان الكبيرة ، حتى اسماككم الصغيرة صارت متوحشة ، همكم الفريد الوحيد غير القابل للنقاش و التأويل ، ان يرتفع ذلك الرقم المدون في حساباتكم المعلنة و غير المعلنة في البنوك ، و انت ايها الفقير لك الله .