لستُ مجنوناً

بقلم/ طالب زعيان

كلّ شيء على عجالة، في مدخل الشارع رفع يديه للتفتيش، همهم الدنيا تغيرت, بنظراته الحادة، استوقفته مكتبة تضم آلاف الكتب، مسح لحيته بيده ـ ما شاء الله ـ وعادت به ذاكرته، وهو مصاحب والده لشارع المتنبي، أتعب قدميه آنذاك، باحثا عن كتاب لم يجده، ذكروا له أنّه يجده في لبنان، مات والده، وما زال الكتاب بعيدا، أغرورقت عيناه، أنحنى رأسه قليلا، أحس أنّه كالطير المبتل، شعر بالضيق، نظره نحو الأرض، أرتطم كتفه بأحد المتسولين، متسائلا ماذا تريد هنا؟ أجابه: لله يا محسنين، ابتسم ظننتك باحثا عن كتاب، أصوات الشارع تخترق مسامعه، الكتاب بألف، الكتاب بثلاثة آلاف، خمسة آلاف ….. شخص أشعث على الرصيف، يهتف بقصيدة الفرزدق، وسط جمهرة المارة… سيدة تعلق لافتة بصدور كتابها الجديد… طقطقة صحون الشاي كان لها وقعها بين الأصوات… صحف مجانية توزع، تحايا مغلفة بابتسامات دافئة، ظل يطيل النظر تحت أمنيات كبيرة، بين ساخط وراض عن نفسه، بازدياد المارة، وحركة الشراء، مثقفون وقورون ملامحهم توحي إلى الارتياح، كلامهم مليء بالإنسانية، لم يدخل مقهى الشابندر، ذكريات والده تؤلمه، خطواته قصيرة، أنفاسه ثقيلة، جلس على مصطبة، ينتصب على يمينها تمثال المتنبي، وأمامه نهر دجلة، راح يتأمل، بحنين إلى الماضي، وهو يحاكم الحاضر، مستغربا هدوء دجلة، متشوقا طوفانه، نهض بسرعة، رتّب نفسه، وأطفأ سيجارته، أزاح الدخان المتصاعد، بصره إلى الأعلى صوب المتنبي، جسمه قائم، قدماه متلازمتان كالعسكر، أهدابه لا ترمش، شاربه يغطي شفتيه، العرق يتصبب من جبينه، يتخلل لحيته، الناس يغادرون، الجو الرطب الساكن الساخن يطردهم، أطال الوقوف، صفق بقوة مع انحناء ظهره، متلفتا حوله: ـ لست مجنونا..المتنبي ألقى قصيدة

اترك تعليقاً