السرد وتدوين الهامش

اهتمت الكاتبة الأفرو – أميركية توني موريسون طوال مسيرتها الإبداعية بذوي البشرة السوداء، وكرّست قلمها لتدوين مأساتهم وحقوقهم المسلوبة على مرّ السنين، مبيّنة سبب تصديها لذلك، بأن التاريخ قد كتبه البيض ومن الطبيعي أن لا يتم ذكر جميع الحقائق المتعلقة بالسود خلال تلك الفترة المظلمة من التاريخ الأميركي التي تعرّض فيها السود لأقسى أنواع المعاناة والآلام، فكيف لا وهي المرحلة التي وسمت بالعبودية.
 تناولت موريسون في جميع أعمالها الروائية حقباً مختلفة من حيوات السود، وكشفت خلالها عن سعي السود الحثيث لإبراز هويتهم، وتميزت أغلب رواياتها عدا (أنشودة سليمان) ببطولة شبه مطلقة للنساء، لتمنح بذلك المرأة السوداء حرية اعتلاء مسرح الحياة ولو سردياً.
  ولدت توني موريسون في أوهايو عام 1931 وتعد الكاتبة الأميركية السوداء الوحيدة الحاصلة على جائزة نوبل للآداب 1992، كما وحازت على جائزة بوليتزر عن روايتها (محبوبة) التي تناولت تاريخ العبودية والتي عدّتها صحيفة نيويورك تايمز الأفضل بين الروايات الأميركية للأعوام الخمس والعشرين المنصرمة.
توّجها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بالوسام الرئاسي للحرية في الولايات المتحدة الأميركية عام 2012، وقال في معرض التكريم إن موريسون لم تكن تمثّل له محض شخصية بطولية فحسب بل إن قراءة روايتها (أنشودة سليمان) قد أسهمت في تشكيل شخصيته وجعله يؤول إلى ماهو عليه الآن، المصدر كتاب (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة) الصادر عن دار المدى بترجمة وتقديم الكاتبة لطفية الدليمي.
عملت موريسون كمحررة أدبية في دار نشر (راندوم هاوس) وأشرفت على تحرير أحد الأعمال التي نشرها (محمد علي كلاي)، كما ورافق عملها كمحررة أدبية لسنوات عدة عملها كأستاذة جامعية.
حينما يكون عرقك، لون بشرتك، هو ما يحدد كيفية تعامل الآخرين معك، آنذاك ستصادر حريتك رغماً عنك، إذا كان كل ماذكر لا يناسب المسطرة الاجتماعية التي تتحكم بحيوات الآخر المختلف.
في روايتها “رحمة” المنشورة عام 2008 والصادرة بترجمتها العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بترجمة أنطوان باسيل، سلطت موريسون الضوء على فترة تأسيس القارة الأميركية في القرن السابع عشر عام 1690 تحديداً، أبان الهجرة الجماعية لتأسيس المجتمع الأول للدولة الأميركية، ونشوب الحرب الأهلية بين المستعمرين والسكان الأصليين.
تعدُّ هذه الرواية تجسيداً حقيقياً لطبيعة المجتمع الأميركي الفسيفسائي بأعراقه وأصوله المتعددة، إذ مثّلت (لينا) الهنود الحمر “السكان الأصليين”، أما فلورنس فتمثل الأصول الأفريقية فقد بيعت أمها كعبدة عن طريق الأفارقة، ويعدّ (جاكوب) المواطن الأميركي ذا الأصول  الهولندية وزوجته الإنكليزية (ريبيكا) التي عرضها والدها للبيع مقابل أي عرض يقدّم له؛ وذلك للتخلص من كلفة طعامها وملبسها الزهيدة، وهناك ويل أو ويلاد وسكالي الذي يحلم بحرية قريبة مقابل انتهاء تاريخ أجره الذي مدده مالكه عنوة بحجة قيام سكالي بأعمال تخريبية، و(سورو) التي يعني اسمها (خزي)، وهو اسم أطلقته عليها زوجة النشّار لبطء قدراتها العقلية، الفتاة التي لم تطأ أقدامها اليابسة إلا بعد غرق السفينة التي عاشت عليها لعدة أعوام برفقة توأمها، أما السيد دورتيغا وزوجته فهما من أصول برتغالية، وتمثل شخصية (الحدّاد) الوجه الجديد للسود الذين انتهت عبوديتهم وغدوا أحراراً.
ثمةَ لحظاتٌ في حياة المرء يظنها النهاية ولكنها ليست سوى نقطة البداية، وما عودة فلورنس الطريدة المكسورة، حافية القدمين سوى نقطة التغيير التي كانت لينا تنتظر حدوثها.
تشرع فلورنس بكتابة روايتها على جدران المنزل الجديد للسيّد جاكوب حال عودتها الأخيرة إلى المزرعة بعد طردها من قبل الحداد، الحداد الذي مثل لها ولأول مرة كيفية امتلاك الجسد فعاملته كعبدة له لا كسيّدة. 
تبدأ فلورنس الرواية بعبارة مؤثرة {لا تخف فلا يمكن أن تصيبك روايتي بأي أذى بالرغم مما قمت به. أعدك بأن أستلقي بهدوء في الظلام، ربما أو أرى من وقت لآخر الدم من جديد لكنني لن أثني أعضائي أبداً عن النهوض ولن أكشر عن أسناني}.
تخبرنا فلورنس عن قصة مجيئها إلى المزرعة، عبر التنقل بين جدران المنزل وأرضيته من خلال الكتابة، بعدما طلبت أمها من السيد جاكوب الذي كان يطلب سيدها دورتيغا ديّناً لم يستطع الأخير تسديده، أن يأخذ ابنتها عوضاً عنها بعدما عرض دورتيغا على جاكوب أخذ أحد عبيده عوضا عن المبلغ الذي في ذمته. لم يتاجر جاكوب بالعبيد يوماً، لذا يعدّ هو إحدى بوصلات الرحمة التي توجّه أحداث الرواية.
تشكّلُ الطفلة فلورنس ذات الأعوام الخمسة برفقة لينا وسورو والتوأم وسكالي وويل نسيج أسرة صغيرة تعيش باكتفاء ذاتي في منزل هادئ داخل مزرعة جميلة تحت رعاية السيد جاكوب وزوجته، فنرى لينا تساعد السيّدة بولادة اطفالها الذين لا يسعهم العيش طويلا، السيّدة التي ترافق لينا كظل لها، إذ اختبرا كل شيء أجادتا صنعه في ما بعد عن طريق التجربة، كانت لينا أول من تعرفت عليها السيّدة حال وصولها من انكلترا، تَهِبُ الأخيرة فلورنس حذاء ابنتها المتوفاة عوضاً عن السير حافية، بعدما سرقت إحداهن حذاءها ووشاحها في قبو السفينة التي أقلّتها إلى حيث تقيم الأسرة. الأسرة التي ظن السيّد جاكوب بأنه قد تركها في مأمن بعد أن أكمل بناء منزله الجديد، لم تشأ أن تصمد أمام سيل الحرية الذي لم تعتده، فانهار كل شيء بلحظة موته ومرض السيدة، فغدت الأسرة أشبه بعش السنونو، ولأن منطق الغاب هو ما يحكم آنذاك ولا وجود لسلطة القانون، فارتمت الأسرة بأحضان الضياع سريعاً بعد غياب سيدها، ولأن السيّدة لم تعتد مثل هذه الحرية في الحكم فالتجأت للدين كمهرب لها من خوف الحرية، لأنه وكما قال افلاطون: لو أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات. 
عمت الفوضى أرجاء المزرعة وتغير سلوك السيدة كلياً مع افراد أسرتها المفترضة، فانصرف كل واحد منهم إلى همومه الشخصية بعيداً عن الآخر الذي يشاركه العيش، لتتحول بذلك مشاركتهم الفعلية مع بعضهم إلى مجرد مشاركة مكان، فهل هي فوضى الحرية؟.
الرعب والرحمة هما الخيطان الخفيان اللذان يربطان أحداث الرواية ويحركان شخوصها، فكيف لا والرعب كان لغة المجتمع الأميركي خلال فترة الحرب الأهلية والمعارك الدامية التي وقعت بين المستعمرين والسكان الأصليين. أما الرحمة فتجسدت عبر عدة شخوص ومواقف مختلفة، فمثلا السماح لسورو بالنوم قرب الموقد طوال فصل الشتاء، وتبني الحداد للطفل اللقيط (فارك) ورعايته تمثل تجسيداً للرحمة، ارتشاف السيد جاكوب من قنينة واحدة برفقة عبديّه ويل وسكالي اللذين يجلب لهما الهدايا من الروم ما استطاع، السماح للينا بالنوم في المضاجع المعلقة… {رحمة}.
استخدمت توني موريسون في روايتها هذه تقنية الميتا فكشن كما واعتمدت على تقنية تعدد الأصوات، لتمنح بذلك أبطالها مناصفة صوتاً مناهضاً للعبودية، كمحاولة منها لاسترداد جزء من حقوقهم المسلوبة الا وهو حق الكلام.
مثلما اختزل لنا الرسام التشكيلي بابلو بيكاسو في لوحته الشهيرة (الجرنيكا) قصة قصف مدينة جرنيكا من قبل طائرات حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الاسبان خلال فترة الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939). كذلك اختزلت موريسون في روايتها رحمة تاريخ تأسيس قارة أميركا ونشوب الحرب الأهلية في نهاية القرن السابع عشر. فهذه الرواية هي تاريخ لحياة المهمشين، اولئك الذين يصنعون التاريخ لكن لا يحق لهم كتابته.
 (رحمة) هي لوحة فنية مؤطرة بالألم، الألم الذي يغرس جذوره في منبت أرواحنا، والذي مهما حاولنا اقتلاعه فإننا بذلك نقتلع جزءًا من تاريخنا، فهل يعيش الإنسان بلا تاريخ؟. 

اترك تعليقاً