العراق.. من ينقذ الطبيب؟

خاص بـ”موقع الحرة”/ مصطفى هاشم

“أمسك الرجل ذراعي بقوة مهددا إياي، بالقول إن هذه المستشفى ليست لأهلي كي أتحكم به”، القصة كاملة ترويها الطبيبة العراقية شيماء يعرب الكمالي (28 عاما) العاملة في إحدى مستشفيات بغداد.

في العاشرة والنصف مساء تلقت الطبيبة شيماء اتصالا من الكادر التمريضي طلبا للمساعدة في حالة طفل يعاني من تقيؤ. لم يكن في مستشفى العلوم العصبية في بغداد، أطباء غيرها، نظرا لقلة الكادر الطبي.

تأكدت الطبيبة من أن حالة الطفل على ما يرام بعد أن “أرضَعَته والدته أمامي وانتظرت ربع ساعة ولم يحدث أي تقيؤ، فطمأنت الأم والجدة وعدت لغرفتي وأبلغتهم أن يتصلوا بي في حال استدعت الحاجة”، تقول شيماء لـ”موقع الحرة”.

لكن الكادر التمريضي عاود الاتصال بالطبيبة في 11 مساء، ولكن هذه المرة لإخراج والد الطفل، لأن قوانين وزارة الصحة العراقية تمنع وجود الرجال في ردهات النساء والأطفال بعد السادسة مساء.

طلبت الطبيبة من والد الطفل مرافقتها إلى الممر الخارجي للردهة، فأخذ يصرخ في وجهها، بأن أحدا لم يهتم بحالة طفله، ولم يأت أي طبيب لرؤيته منذ الصباح، حسب زعمه.

تقول شيماء: “أبلغتُه بأنني كنت مع طفله قبل نصف ساعة، فبدأوا بالصراخ، طلبت منهم خفض أصواتهم من أجل المرضى، فأمسك الرجل ذراعي بقوة مهددا إياي، وقال إن هذه المستشفى ليست لأهلي كي أتحكم به، وحاولوا ضربي قبل أن يتدخل بعض الممرضين والموظفين الذين هرّبوني إلى غرفتي”.

لم تستطع الطبيبة مغادرة المستشفى حتى صباح اليوم التالي، وكان عليها أن تتخفى خوفا على حياتها.

ما أن وصلت الطبيبة إلى بيتها كان قد وصل إلى المستشفى مجموعة أشخاص زعموا أنهم تابعون لفصيل مسلح، وهددوا الطبيبة في غيابها فقدمت شكوى رسمية حول الحادث، تقول شيماء.

وتضيف: “توقفت عن العمل مدة أسبوعين حتى تم حل الأزمة بتنازلي عن الشكوى مقابل عدم تعرضهم لي”.

أصبحت حالات الاعتداءات على العاملين بالقطاع الصحي العراقي “روتينا يوميا تبلغ

المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية الدكتور سيف البدر متحدثا لـ"موقع الحرة"

المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية الدكتور سيف البدر متحدثا لـ”موقع الحرة”

المئات شهريا، تصل أحيانا إلى قتل الطبيب أو أحد أفراد عائلته”، بحسب تصريح المتحدث باسم ​وزارة الصحة العراقية الدكتور سيف البدر لـ”موقع الحرة”، مشيرا إلى أن معظم حالات الاعتداء لا تسجل بسبب الضغط العشائري على الضحية للتنازل عن حقوقه.

وتعرض 57% من العاملين في الرعاية الصحية بالعراق لاعتداءات، منهم 55% تعرضوا لإساءات لفظية و9% لاعتداءات جسدية، و6% تعرضوا لاعتداءات عشائرية، حسب إحصاءات فريق الصحة والبيئة التطوعي المسؤول عن مشروع “الرحمة” لحماية الكوادر الطبية.

ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي تعرضت فيها الدكتورة شيماء إلى اعتداء، بل حدث ذلك “بأوقات مختلفة خاصة في الطوارئ عندما يتوفى شخص، وقد يصل الأمر إلى تكسير قسم الطوارئ وأثاثه بالإضافة إلى الاعتداء علينا”، تؤكد شيماء.

ويشكف المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية الدكتور سيف البدر لـ”موقع الحرة” أن أكثر من 20 ألف طبيب عراقي هاجروا من العراق منذ عام 2003، وكثير منهم كفاءات نادرة، في حين أن عدد أطباء العراق أساسا لا يتجاوز 30 ألف طبيب فقط، يخدمون أكثر من 38 مليون نسمة هم عدد سكان العراق.

وعبر 70% من الكوادر الصحية والطبية عن رغبتهم في الهجرة خارج العراق إذا أتيحت لهم الفرصة، حسب المسؤولة في البعثة الرئيسية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر سحر توفيق سليمان.

وتحذر سليمان في حديث لـ”موقع الحرة” قائلة: “إذا استمر الوضع على ما هو عليه من هجرة الأطباء فإن المريض العراقي لن يجد الكادر الطبي الذي يخدمه بعد خمس سنوات”.

وتشير إلى أن طلاب كليات الطب “صاروا يخافون ويحوّلون من كلياتهم إلى كليات أخرى”.

“الدولة غير جادة”

أنس قاسم طبيب عظام من أسرة طبية زوجته ووالدته وشقيقه وزوجته أطباء، لكنهم لا يمارسون عملهم منذ أشهر يحاولون التخفي حتى أنهم تركوا منزلهم.

حُرقت سيارته أمام بيته في شهر يناير الماضي بدون سابق إنذار، ثم تم إلقاء قنبلة على بيته بعدها بأسبوع، وتوالت رسائل التهديد بالقتل والابتزاز المالي.

يقول قاسم لـ”موقع الحرة”: “أبلغنا الجهات الأمنية، وبعدها بشهرين وبالتحديد في شهر مارس، ألقيت القبض أنا وأخي على المجرم وسلمناه للجهات الأمنية، لكن تم إخراجه بكفالة بعدها بأربعة أشهر بالرغم من وجود فيديوهات لجرائمه ورسائل تهديده، فعاد الشاب إلى سابق تهديداته”.

يضيف قاسم “من حينها نحن في جحيم لا ينتهي، وتركنا جميعا أعمالنا وبيتنا لأننا مهددون”. وأكد نقيب الأطباء عبد الأمير محسن في حديث لـ”موقع الحرة” التهديدات التي تتعرض لها أسرة الطبيب قاسم.

وزود قاسم “موقع الحرة” بمجموعة من الفيديوهات التي توثق اعتداءات تعرض لها، وهذا واحد منها:

ترى الدكتورة شيماء الكمالي أن الأزمة في وجود “دولة بلا قانون تسيطر عليها المليشيات والأحزاب والقوى العشائرية”، مشيرة إلى أن “الأطباء ضحية سهلة للابتزاز والرضوخ لأي مبلغ وفصل عشائري حتى يغلق الموضوع ويحافظ على حياته”.

وتوضح شيماء أن “الفصل العشائري يعني أن عشيرة المريض تطالب بمبلغ مالي كنوع من الدية إما أن تدفعها أو تقتل أنت أو أحد من عائلتك”، ويتم كتابة “مطلوب دم أو مطلوب عشائريا” على جدران منزلك من الخارج كي لا يتم بيعه أبدا. وأيضا “لن تتمكن من العيش في البيت بسلام، فمن الممكن أن تتم تصفية من فيه في أي لحظة إذا لم يمتثل الطبيب أو الطرف الآخر من تنفيذ مطالبهم”.

ويرى نقيب أطباء العراق الدكتور عبد الأمير محسن أن الدولة “غير جادة بحل المشكلة”.

نقيب أطباء العراق الدكتور عبد الأمير محسن

نقيب أطباء العراق الدكتور عبد الأمير محسن

ويكشف محسن لـ”موقع الحرة” أن “عدد الأطباء الذين قتلوا بعد 2003 وصل إلى 330 طبيبا وطبيبة، ووصل عدد حالات الخطف إلى 300 حالة”.

ويقول: “الدولة لا تعي أهمية قطاع الصحة بشكل عام ولا توجد رؤية لذلك، كما أنها لا تخصص له التمويل والاهتمام الكافي، فضلا عن ضعف تطبيق القانون أمام العشائر والجهات المسلحة الأخرى”.

ويشير إلى أن النقابة سجلت 137 حالة اعتداء على الطواقم الطبية في دائرة صحية واحدة فقط في بغداد خلال أقل من شهر، مع أن كثيرا من الأطباء يخشون التصريح عما يتعرضون له ويفضلون السكوت خوفا من التبعات”.

وتشير دراسة لفريق التقييم والمتابعة إلى أن 59% من حالات الاعتداء لم تتخذ المؤسسات الصحية بشأنها أي إجراء قانوني ضد المعتدين.

هل الطبيب هو المشكلة؟

لكن سحر سليمان المسؤولة في البعثة الرئيسية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر ​ترى أن الطبيب أو الكادر الطبي قد يكون هو المشكلة في بعض الأحيان بسبب “أسلوبهم المستفز أحيانا”، مشيرة إلى أن مناهج كليات الطب تركز على المهارات الطبية من دون تعليم أطباء المستقبل مهارات الاتصال ومعاملة المرضى”.

ويشكو المرضى في العراق من أن معاملة الأطباء للمريض في المستشفيات الحكومية سيئة مقارنة بمعاملتهم نفس المريض في عيادتهم الخاصة.

لكن نقيب أطباء العراق يرى أن المشكلة في عدم وجود نظام توزيع للمرضى بشكل جيد ولا نظام إحالة بين المؤسسات الصحية.

ويوضح لـ”موقع الحرة” قوله: “مطلوب من الطبيب الاستشاري أن يعاين 200 مريض في خمس إلى ست ساعات، وكل خمسة مرضى أو أكثر يدخلون سويا، أكيد لن يكون مزاج الطبيب بالمستوى الذي يرضي المريض”.

ويؤكد المتحدث باسم وزارة الصحة أن الوزارة وبالتعاون مع نقابة الأطباء ستعقد تدريبات للأطباء على مهارات استيعاب المرضى والتعامل مع حالات الغضب والقلق لدى مرافقي المرضى وتذكير الأطباء أيضا بأخلاقيات المهنة.

نقص الموارد

يشير نقيب أطباء العراق إلى أزمة أخرى تتمثل في نقص الموارد، مشيرا إلى أن “الطبيب يطلب تحليلا طبيا، فلا يجده المريض، يكتب نوعا معينا من الدواء فلا يجده المريض، وقد تتأجل العملية أكثر من مرة، فيشعر المريض أن الطبيب مقصر في عمله، كيف لك أن تعمل في وضع عدم توفر مستلزمات العمل”.

ويضيف “سيكون هناك تقصير بالتأكيد، المريض لديه حق لكن الأسباب وحلها ليست بيد الطبيب”.

وترى طبيبة النساء والتوليد مريم قيس (34 عاما) أن حالات الاعتداء في تزايد بسبب تدهور الواقع الصحي في ظل قلة الإمكانات والأجهزة الطبية ونقص الأدوية.

وكانت قد تعرضت هي نفسها لاعتداء لفظي في مستشفى الكرخ للولادة.

تقول لـ”موقع الحرة” إن “المريض يضطر في بعض الأحيان إلى أن يشتري الدواء من خارج المستشفى، وبالتالي تزداد نقمته على الكادر الطبي، ويصبح الطبيب في وجه المدفع أمام المريض الغاضب”.

ويعترف المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر بوجود نقص لوازم بعض المؤسسات الصحية، لكنه يشير إلى أن الوضع حاليا أفضل حالا من ذي قبل، وأن الوزارة تعمل على سد النقص، خاصة وأن “أغلب العلاجات توفرها الوزارة بالمجان”.

“الرعاية الصحية في خطر”

ويطالب البدر المرضى ومرافقيهم بعدم صب غضبهم على الطبيب قائلا “هو موظف وتوفر الأدوية أو المستلزمات مسؤولية الدولة ككل والطبيب يؤدي واجبه فقط”.

“فرصة إنقاذ طبيب تعني إنقاذ حياة كثير من المرضى”، هذه رسالة حملة أطلقتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتعاون مع وزارات الصحة والداخلية والدفاع ونقابة الأطباء وعدد من الفاعلين المحليين في العراق في تشرين الثاني/نوفمبر باسم “الرعاية الصحية في خطر”.

وتخاطب سحر سليمان العراقيين بالقول: “دع الطبيب يقوم بعمله، فالعنف ليس الحل، وإذا قصر الطبيب في أداء عمله فهناك أماكن تستطيع أن تشكوه فيها مثل نقابة الأطباء أو المستشفى الذي يعمل فيه”.

لكن يبدو أن الحملة تواجه على صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي سيلا من الانتقادات والهجوم على الأطباء والسخط عليهم.

تعلق سحر: “نقرأ تعليقات النشطاء التي كانت في الأغلب بالفعل مع العنف ضد الأطباء والكوادر الصحية”.

لكنها تشير إلى أن الحملة تعمل على تجاوز هدفها التوعوي إلى خطوات ملموسة وقرارات يشارك في صياغتها الجهات المعنية.

وجمعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر شيوخ العشائر مع مسؤولين بوزارة الصحة، واتفقوا على وضع آلية للتحقيق مع الأطباء ومحاسبتهم إذا ثبت تقصيرهم.

وأضافت سحر أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعمل مع نقابة الأطباء ووزارة الصحة على عقد ورش عمل لتحسين وتطوير سلوكيات الأطباء وتدريبهم على مهارات التواصل مع المرضى، لكنها تؤكد أن “واقع الصحة بِدّه (يحتاج) شغل وقرارات كتيرة”.

ويطالب المتحدث باسم وزارة الصحة بتفعيل قانون حماية الأطباء (صدر في عام 2013) بحيث تكون معالجة شكاوى المرضى وتقصير الأطباء أو أخطاءهم أو الاعتداءات على الأطباء من خلال الجهات المعنية كوزارتي الداخلية والعدل، وليس من خلال المطالبات العشائرية.

اترك تعليقاً