أبـــراج الأغنيـــــاء فــــي نيـــويــورك

من النادر في تاريخ العمارة أن تظهر أنواع جديدة من المباني؛ فقد أنتج ابتكار الرومان للكونكريت قبابا مبهرة وتحصينات قوية، وقاد تطور الحديد في العصر الفيكتوري لتشييد جسور مهيبة وسقائف معقودة. أما اختراع المصعد في أميركا فانتج اولى ناطحات السحاب في شيكاغو. واليوم نرى نوعا جديدا من الهياكل؛ يجسد تماما عصر القرن الحادي والعشرين بكل ما فيه من براعة التقنية واللامساواة المتطرفة..أفرز التقاء براعة الهندسة والثغرات القانونية لتقسيم استعمالات الارض(zoning) وبتركيز لا يضاهى للثروات الشخصية نوعًا جديدًا من الأبراج فائقة الارتفاع والنحافة، وباهظة الثمن.لا يُخطىء الزائر الى نيويورك في السنوات القليلة الماضية رؤية ذلك النمط الجديد من الابراج، التي ارتفعت فوق خط افق المدينة (المرتفع أصلا)؛ متحدية الجاذبية والمفاهيم التجارية معا. وهي ليست نتاج تطور التكنولوجيا (وتجمع أثرياء دوليين) فحسب؛ بل سياسة توقيع استعمالات الارض الحضرية التي سمحت للمستثمرين بشراء حقوق استغلال “الفضاء- airspace” غير المستخدم فوق المباني المجاورة واضافته الى مبانيهم (ليتمكنوا من اقامة هياكل كبيرة لا تتعرض لعملية مراجعة عامة من جانب السلطات البلدية). بات وجه نيويورك يتغير بسرعة لم تشهدها المدينة منذ عقود؛ وتراوحت النتائج بين مبانٍ راقية المظهر واخرى سخيفة؛ أو حتى الاثنين معا في آن واحد.. فهناك مبنى “432 بارك افنيو” الذي يرتفع مثل انبوب مضلع سريالي التركيب من الكونكريت الابيض، يفوق ارتفاعه ضعف ارتفاع المباني المجاورة، وتتجمع نوافذه الكثيرة لتخفي وراءها حمامات من الرخام الثقيل وأقبية (ذات أجهزة تعدل الاجواء) لخزن النبيذ. ورغم أن المعماري المصمم “رافائيل فينولي” يقول أنه استلهم الشكل من برميل النفايات؛ فقد حوّل النفايات الى ذهب؛ حين بيع الطابق العلوي من المبنى بمبلغ 95 مليون دولار! انه أطول مبنى سكنيا في العالم، لكنه لن يحتفظ بهذه الصفة طويلا؛ فبالقرب منه بدأ الهيكل الضخم لبرج “سنترال بارك” بالارتفاع.. كتلة زجاجية كبيرة ستسرق الاضواء وقد تصيب الناظر بالدوار.. صممها “أدريان سميث” و”غوردون هيل”؛ مصمما برج خليفة الشهير في دبي. ولعل السكان سيتمكنون يوما من استراق النظر الى شقق البرج المجاور؛ بالنظر لمدى تقارب الابراج مع بعضها. وعلى الجانب الآخر من الشارع يقف برج “220 سنترال بارك ساوث” الذي يقدم مظهرا انيقا ليكون “الجنتلمان” في المجموعة.. فهو من طراز “نيو آرت ديكو”، مغلف بحجر ألاباما الجيري اللامع، فيه شرفات غائرة وتزيينات معدنية. انه من تصميم المعماري “روبرت أ.م. ستيرن” (الذي اعتاد تقديم النمط المعماري الذي يرغب به الزبون؛ مهما كان..). يرى “ستيرن” أن مبناه سيبقى مستقرا على أطراف سنترال بارك لأجيال طويلة؛ على خلاف مجاوراته، ويشرح وجهة نظره قائلا: “العمارة وليمة؛ وأغلب المعماريين يتضورون جوعا..”. وقد أتى تصميمه بثماره؛ إذ بيع القدم المربع الواحد في بعض شقق المبنى بنحو عشرة آلاف دولار، وبيع الطابق العلوي لأحد المليونيرات بمبلغ 238 مليون دولار؛ مما جعله أغلى شقة سكنية في الولايات المتحدة. الشكل يتبع المالكان الشكل في نيويورك يتبع المال دائما؛ وهذه الموجة المعمارية (نتيجة للثروة العالمية الزائدة) ليست استثناءً.. فالابراج المرتفعة لم تعد شيئا صعب الانشاء، لكنها لم تكن عقلانية من حيث الحس التجاري؛ فكلما ازداد ارتفاع المبنى أصبحت عائداته أقل من كلفة انشائه.. حتى الآن. باتت أبراج نيويورك المعاصرة تشبه مزروعات أكثر زارعوها من تسميدها وسقيها بالكثير من المال. يعيش نحو ثلث عدد كبار أثرياء العالم في أميركا الشمالية؛ ويفضل غالبيتهم مدينة نيويورك لتكون “خازنة أموالهم”! أصبحت سوق العقارات الفاخرة (منذ الازمة الاقتصادية العالمية سنة 2008) نوعا جديدا من العملة الدولية؛ تقدم للمستثمرين موجودات ملموسة ونوعا معينا من الهيبة لا يمكن العثور عليه في الأسهم وصناديق الائتمان. وحفز التقلب المستمر للاسواق المالية المشترين على البحث عن مسارات آمنة في سوق العقارات الممتازة؛ من لندن الى نيويورك وهونغ كونغ، مؤسساً لخط جديد من أسعار العقارات الباهظة وتصنيف لفئة جديدة بالكامل تتحدى القواعد المعتادة للسوق: “العقار- الغنيمة”. وهكذا باتت شقة تحتل طابقا كاملا في احد الابراج الجديدة المطلة على سنترال بارك اضافة مهمة الى مجموعات الاستثمار؛ جنبا الى جنب مع لوحات كبار الفنانين والماس الملون والنبيذ المعتق. والاختلاف الوحيد أنها ليست حلية توضع في الخزائن؛ بل كيان مادي كبير يرتفع في سماء المدينة ليراه الجميع.  ظل الابراج على المدينةحثت جمعية الفنون البلدية في نيويورك “Mas” (وهي مؤسسة غير ربحية تعمل للحفاظ على طابع المدينة منذ أواخر القرن التاسع عشر) على متابعة هذه التغيرات في طبيعة وارتفاع الأبراج، وأن تجري مناقشة مسيرة تخطيط المدينة علنا. تقول “تارا كيلي” من الجمعية: “يبني المستثمرون تلك الابراج “بحق الملكية”؛ أي- لا يحتاجون لإذن تخطيطي ولا إخطار أي جهة. لم تتدخل المجالس المحلية في الامر؛ ومع ذلك ستبقى هذه الأبراج تلقي بظلالها العملاقة على سنترال بارك لسنوات طوال قادمة..”. قد تبدو الشكوى من الظلال التي تلقيها ناطحات السحاب على المدينة أمرا سطحيا؛ لكن “Mas” تمتلك تاريخا طويلا حافلا في مقارعة المباني المرتفعة حفاظا على صورة نيويورك. كانت الجمعية ذات حضور نافذ عند سن أول قانون لاستخدامات الارض في المدينة منذ اقيمت اولى ناطحات السحاب سنة 1915؛ وهو مبنى ضخم ذو 40 طابقا من الحجر، احتل مربعا كاملا من الارض. أصبح المبنى اليوم من المباني التراثية المهمة؛ لكنه كان في حينها يشبه وحشا خرج عن سياق المدينة؛ جبل سد انسيابية الهواء الى الاحياء المجاورة وألقى بظلاله (ومساحتها نحو سبعة هكتارات) على المارة وحجب عنهم ضوء الشمس. في العام التالي (1916) تبنت المدينة قرارا حول استخدامات الارض لتنظيم كتل المباني، وحددت بموجبه مبدأ “التراجع” (عن حدود الارض) للسماح بوصول كميات أكبر من الهواء وضوء الشمس الى الشارع. يدور القرار حول فكرة “مستوى التعرض للسماء”؛ الذي يفترض وجود سطوح تغلف المبنى، تتراجع الى الخلف مبتعدة عن الشارع بزاوية معينة؛ مما يجبر مباني الابراج المرتفعة الى تقليص مساحة البناء كلما ارتفعت الى الاعلى. ومن هنا بدأت مرحلة “العصر الذهبي لناطحات السحاب” كما عرفها العالم في الصورة المألوفة لنيويورك. لم يتغير شيء حتى سنة 1961؛ حينما استعاضت المدينة عن مبدأ التراجع بمبدأ (نسبة مساحة الارض- “FAR”؛ لتحديد السقف الاعلى لكتلة المبنى بالتناسب مع مساحة الارض المشيد عليها؛ عن طريق تحديد مجموع مساحات الطوابق/ مساحة الارض. فعلى سبيل المثال، اذا كان مقدار “FAR” يساوي 10؛ يمكن للمستثمر بناء مجموعة طوابق تعادل عشر مرات مساحة الارض حسبما يريد: عشرة طوابق لكامل مساحة الارض أو عشرين طابقا على نصف مساحة الارض.. وهكذا.   شراء حقوق الهواء تلك القوانين أنتجت أيضا فكرة غريبة: حقوق التطوير القابلة للتبادل- “TDRs” أو ما يُعرف أيضا بــ” حقوق الهواء”؛ وهي آلية تسمح لمالكي الارض بشراء “فضاء الهواء” غير المستغل فوق المباني المجاورة واضافتها الى مبانيهم. وهذا هو أبلغ تجليات مبدأ التخطيط في السوق الحرة: اذا لم يكن جارك يستخدم فرصته لبناء ناطحة سحاب؛ يمكنك شراءها منه لزيادة ارتفاع مبانيك.. وهذا يبدو مناسبا في التنافس الحاد للرأسمالية؛ حيث كل شيء للبيع، حتى الهواء. للغرابة؛ يحتم التشريع أن تتشارك المباني المتجاورة مسافة فاصلة نحو 3.5 متر بينهما؛ ولكن لا حدود لامكانية تجميع المباني المتجاورة. وهذا قاد لظهور تجمعات بنائية غريبة استفاد المستثمرون فيها من القرار واشتروا حقوق الهواء لمجموعات كبيرة من المباني المجاورة؛ حتى صار سعر القدم المربع من تلك الحقوق يوازي سعر قدم الارض الاساسية! كذلك اجاز قانون صدر سنة 1968 للمباني التاريخية (التي لا يجوز التغيير المعماري فيها) بيع حقوق الهواء للمباني على الجانب المقابل من الشارع؛ نتج عنها مبانٍ “توائم” عبر المدينة، تتباين بالارتفاع والكتل؛ ليتسنى للمباني التاريخية التعويض عن خساراتها المادية في ظل تغير خط افق المدينة. مثل تلك التشريعات مكنت دونالد ترامب في سنوات السبعينيات من شراء حقوق الهواء فوق مبنى “تيفاني” الشهير بمبلغ خمسة ملايين دولار؛ ليرتفع ببرج “ترامب” من عشرين طابقا الى 68! وبعد عقدين جمع حقوق الهواء من عدة مبان اخرى ليبني “برج ترامب العالمي” ذا السبعين طابقا من الزجاج الاسود. ما الذي يراه “ستيرن” إذا في النقد الموجه لأبراج الاثرياء في نيويورك؛ التي باتت ظلالها أطول فأطول على الشوارع والمتنزه الكبير- سنترال بارك؟ يقول: “جدلية الظلال تلك أمر فارغ؛ فالمباني الأقل ارتفاعا وأضخم كتلة تلقي ظلالا أطول وأكبر على المدينة من الابراج الرفيعة. فهذه الاخيرة ظلالها أطول لكنها تتحرك وتنحسر سريعا. ولو جرى بناء جميع “حقوق الهواء” بصورة أبراج رفيعة بدلا من مبان كتلية؛ لكان تأثير الظلال أقل بكثير. وبما أن “كثافة المبنى” محددة سلفا؛ أفليس من الأفضل أن نشيدها بشكل أبراج نحيفة وطويلة بدلا من مبان سمينة وقصيرة؟”

اترك تعليقاً