مقاتل "تنظيم الدولة" السعودي الذي صلى صلاته الأولى تحت تأثير الحشيش

بعينين ثاقبتين، جال في كل الوجوه فور دخوله الغرفة. استطلع الكاميرات ووزع ابتسامات مصطنعة. ربما باستثناء نظارته الطبية ما كنت لأتخيله على نحو مختلف، بلباسه الأسود الذي طالما ميّز مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.

انتظر هادئاً يرقب المشهد حتى انتهينا من الترتيبات الفنية كافة. أبلغته بما قمنا به لاستكمال الشروط القانونية لإجراء اللقاء، فوافق بأدب جمّ.

“كنت صايع ضايع.. يعني شخص بعيد عن الدين شتى البعد”، بهذه الكلمات قدم السعودي من تنظيم الدولة نفسه للحديث بفخر عن الطريقة التي انتهت بالتحاقه بصفوف “المجاهدين” في سوريا عام ٢٠١٢.

كان قد مضى على اعتقال محمد صالح ناهي الشمري نحو عشرة أشهر حين التقيته في أحد المقرات الأمنية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” في محافظة الحسكة، حيث تحدث عن تجربته باعتزاز وكأن التنظيم لا يزال يحكم تلك المساحة الجغرافية الممتدة من تكريت إلى مشارف حلب، رغم إدراكه أن المعركة تكاد تكون قد حسمت، وأنه لم يتبق سوى بعض الجيوب المحاصرة التي يتحصن فيها التنظيم في سوريا والعراق.

“العاصفة من جنود الله”

أخبرني، بثقة، أن ما جرى هو “ابتلاء وتمحيص وتنقية صفوف وإخراج الخبث وإتيان الطيب”، واستشهد بما جرى في معارك هجين قرب دير الزور قبل أن ألتقيه بساعات قليلة، وكيف “ضاقت الدنيا وضاقت الأرض على الدولة الإسلامية، ثم في يوم واحد أو يومين، أتى الله بجند من جنوده الذي هو الغبار والضباب، ففتح الله عليها من جديد، وفتحت عليها عدة مناطق، رجعت السوسة رجعت الباغوز، ورجعت إلى حقل العمر”.

في الطريق للقائه، كانت نعوش مجموعة من مقاتلي “قوات سوريا الديمقراطية” تجوب شوارع مدينة القامشلي وسط صراخ وعويل وزغاريد أهلهم وأصدقائهم. خلال اليومين الماضيين سقط العشرات منهم في هجوم مفاجئ لمقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”.

بالفعل كان مقاتلو التنظيم قد استغلوا العاصفة الرملية لتحقيق مكاسب كبيرة نتيجة إعاقتها لطيران التحالف الدولي، وذلك بعد أشهر على بدء المعركة. تطورات بعثت الشعور لدى الكثيرين من مؤيدي التنظيم، حتى المعتقلين منهم داخل السجون، بإمكانية النهوض مجدداً.

أردت إخبار محمد أن المنطقة صحراوية، وأن العاصفة يكاد يكون موعدها ثابتا في مثل هذا الوقت من كل عام، وأن لا علاقة لإرادة إلهية بمساعدتهم في الموضوع برمته، لكنني وجدت نفسي مدفوعاً لسؤاله عن كيفية معرفته المفصلة بما يجري خارج السجن، فأبلغني بأنه يستقي معلوماته من المحققين الأمريكيين الذين يأتون بشكل دوري للتحقيق معه، وأنه يحرص على سؤالهم عن كل التطورات الجديدة.

ينكر الكثيرون ممن التقيتهم من أعضاء التنظيم المعتقلين في سوريا والعراق خلال العامين الماضيين أي أدوار قتالية أو أمنية كانوا قد قاموا بها خلال فترة حياتهم في كنف ما يصفونه بدولة “الخلافة”، ويصرون على أنهم كانوا قد كُلفوا بأعمال إنسانية، وغالبيتهم يقول إنه كان يعمل في إحدى مهنتين، التمريض أوالطبخ.

لكن الشمري، وهو من قرية “المضيح” من منطقة حائل في السعودية، يقدم نموذجاً مختلفاً لمئات المعتقلين من التنظيم، إذ يمتاز عنهم بصراحة مدروسة. يكشف، لكن بحذر شديد، بعضاً من الكثير جداً عما يعرفه عن التنظيم الذي انضم إليه منذ لحظة إعلان “الدولة الإسلامية” منتصف عام ٢٠١٣، إلى أن اعتقل خلال محاولة الهرب من صفوفه نهاية عام ٢٠١٧.

أخبرني الشاب، الذي لم يتجاوز عمره الثلاثين، أنه كان قد كُلف بالكثير من الأعمال من قبل التنظيم، واستهدف عدة مرات من قبل التحالف الدولي، لكنه اعتذر لعدم قدرته على الإفصاح عن أي تفاصيل كونها قد تشكل إدانة له في أي محاكمة مقبلة.

وترفض الجهة الأمنية التي تعتقله تقديم أي معلومات بخصوص ملفه والاتهامات الموجهة إليه أو أي أدلة قد تكون بحوزتها ضده، بل وتشترط على الصحفيين الذين يريدون مقابلة سجين من التنظيم توقيع تعهد يتضمن مجموعة من الشروط التي تتوافق مع المعاهدات الدولية بهذا الخصوص.

بعد محاولات عدة، وافق الشمري على إخبارنا بما يُتهم به من قبل المحققين الأمريكيين الذين فوجئ بأنهم يعرفون عنه الكثير. يقول الشاب إن الاتهامات تشمل “تنفيذ عدة عمليات في داخل السعودية، وإرسال أشخاص من الدولة (الإسلامية) إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا”. وهو ما يفسر على ما يبدو اهتمام المحققين الأمريكيين باستجوابه مراراً وتكراراً.

تمتد معرفة الشمري بالجهاديين الأجانب في سوريا إلى ما قبل تأسيس الدولة الإسلامية، منذ لحظة انضمامه لكتيبة “المجاهدين والأنصار” بقيادة عمر الشيشاني عام ٢٠١٢، والتي انضمت لـ”الدولة الإسلامية” فور إعلانها بعد نحو عام.

لكن الشاب اكتسب شهرة لنشاطه عبر وسائل التواصل الاجتماعي للدعوة للهجرة، وعرف بشكل واسع على موقع “تويتر” بحساب يحمل اسم “محمد الشمري باقية”، وبصورة شخصية له يحمل رأساً مقطوعة، كما ظهر في العديد من الإصدارات التي كان يبثها التنظيم بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٦.

أحد هذه الإصدارات كان موجهاً للسعودية، حيث ينتقد نظام حكمها ويتوعد بمد نفوذ “الدولة الإسلامية” إليها. وفيه ظهر الشمري بوجهه اليافع، قبل أن ينتهي الإصدار بتمزيق أحد المقاتلين لجواز سفره السعودي، وقطع رأس من يقول الإصدار إنه أحد ضباط الجيش السوري المعتقلين لدى التنظيم.

لكن الإصدار الذي اشتهر به الشمري في السعودية كان نشيد “يا عاصب الراس وينك” بمشاركة مجموعة من الجهاديين السعوديين، وهو نمط غنائي يعرف بـ”الشيلة”، انتقيت كلماته لمديح أبو بكر البغدادي وما اتبعه من أساليب متشددة لإقامة “الدولة الإسلامية”.

ركام الرقة

لا يبدي الشاب، الذي أخبرني أنه التقى البغدادي في الرقة عام ٢٠١٥، أي إحساس بالندم، ويتهم من وصفها بـ”البطانة الفاسدة” بالتسبب بالكثير مما لحق بمشروع “دولة الخلافة”، ويستثني البغدادي من النقد، بل ويشيد به.

قبل أن ألتقي محمد ببضعة أيام، تجولت في الرقة، المدينة التي لطالما وصفت بأنها عاصمة “الدولة الإسلامية”. مر عام على طرد التنظيم منها، باتت عبارة عن ركام مدينة، حالها كحال الكثير من المدن التي مر منها وأقام فيها مقاتلو البغدادي.

سألت الشمري: ماذا جلبتم على هذه الجغرافيا السنية غير الكارثة بمشروعكم وأفكاركم؟ لم يتردد الشاب باتهام التحالف بتدمير هذه المدن، قبل أن يضيف إن خذلان بعض مقاتلي الدولة وسكان هذه المناطق لنصرة مشروعهم هو ما أدى إلى ذلك، ورفض أي نقاش يتعلق بأن أساليب حكم التنظيم في التعامل مع السكان الذين وقعوا تحت حكمهم مجبرين غير مخيرين هي ما أدت لخذلانهم.

يرد بكل هدوء “إنها حرب ضد الأعداء”، وأن “حكم التنظيم للدولة كان خاضعاً بالكامل لأحكام الشريعة، كما في السعودية تماماً”.

في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، توصل مقاتلو تنظيم الدولة لاتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” بموافقة أمريكية للانسحاب من الرقة، وإنقاذ حياة نحو خمسة آلاف مدني كانوا عالقين في آخر الأحياء التي يسيطر عليها التنظيم الذي كان يمنعهم من المغادرة. خرج المقاتلون وعائلاتهم من المدينة باتجاه بلدة هجين والقرى المحيطة بها، والتي لا تزال تدور فيها أعتى المعارك حتى اليوم للقضاء على ما تبقى منهم.

مشهد لم يسمح بتنفيذه في مدينة الموصل، إذ رفضت السلطات العراقية السماح لأي مقاتل من التنظيم بالانسحاب من المدينة، حيث كانوا يتخذون آلاف المدنيين كدروعٍ بشرية في البلدة القديمة، وهو ما تسبب بمقتل الآلاف منهم.

أخبرت الشمري أني كنت حاضراً وشاهداً على ما جرى في المدينتين، وسألته: أي بطولةٍ وشرف في اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية؟ رد بسؤال لم أتوقعه: “طيب ليش ما راعوا وضعهم؟”، قاصدا التحالف بشكل رئيسي، والقوات العراقية في الموصل و”قوات سوريا الديمقراطية” في الرقة، قبل أن يضيف أن عدد المدنيين الذين قتلوا بسبب القصف أكبر بكثير ممكن قتلهم التنظيم، متجنباً الإجابة عن أي جانب أخلاقي يتحمله التنظيم الذي تسبب بمقتلهم، بداية حين سيطر على هذه المدن، ولاحقاً حين اتخذهم دروعاً بشرية.

“المنشار والسيف”

خلافاً للكثير من الجهاديين السعوديين الذين عادوا لبلادهم ودخلوا برامج إعادة التأهيل، يرفض الشمري الفكرة برمتها، رغم أن بلاده لا تطالب باسترداده هو ومجموعة من السعوديين المعتقلين لدى “قوات سوريا الديمقراطية”. ويتذرع بأن السعودية باتت “تقتل حتى معارضيها”، وبأنه يكفي “سب محمد بن سلمان حتى يقتلونك بالمنشار أو بالسيف” في إشارة منه لمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية.

ويقول الشاب إنه أرسل عدة رسائل لأهله في حائل عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي زاره ممثلوها عدة مرات في السجن، لكنه يعتقد أنها لم تصلهم، وأنها احتجزت بعد وصولها للهلال الأحمر السعودي.

بدا واضحاً أن الأشهر التي قضاها الشمري في السجن لم تدفعه لإجراء أي مراجعات لتجربة حياته مع التنظيم. حين كنت أتحدث إليه كانت تتراءى لي صور عشرات الصحفيين والناشطين الذين ذبحهم التنظيم، ومئات الشيعة والسنة الذين أعدمهم جماعياً، وآلاف الأيزيديين الذين تم سبيهم وتهجيرهم. كلها أفعال تجد لها مبررات عنده.

محمد الشمري واحد من 900 أجنبي من تنظيم الدولة معتقلين لدى “قوات سوريا الديمقراطية”، بالإضافة لبضعة آلاف من المعتقلين السوريين. ومجرد التفكير بأنهم ما زالوا يؤمنون بذات الأفكار التي قادتهم إلى هذه المغامرة، يطرح مخاوف بالغة بشأن المستقبل.

فهناك الآلاف غيرهم في السجون العراقية، والسجون والسورية والتركية، والآلاف ممن مازالوا يقاتلون في مناطق سيطرة التنظيم في منطقة هجين وبعض الجيوب الحصينة في سوريا والعراق.

يبدو الحديث عن نهاية التنظيم مبكراً، فكيف بمحاربة ما ترتب على هذه التجربة من أفكار يتوقع أن تظل حاضرة في عقول من عايشها طويلاً؟ خاصة وأن الدول التي تعود إليها أصول غالبية هؤلاء المقاتلين ترفض حتى مجرد التفكير بمحاكمتهم على أراضيها، وجل ما تكترث به ألًا يستطيع أي منهم العودة وتهديد أمنها، وهو ربما ما يفسر الاهتمام الكبير بالمعلومات التي يعرفها الشمري عنهم.

“حشيش… حشيش”

ومن المهم الإشارة إلى أن محمد نموذج للكثير من الشبان الذين انضموا للتنظيم دون أن يكون لديهم أي خلفية متشددة، بل أكثر من ذلك، عاشوا حياة مفرطة في دنيويتها على جميع الأصعدة.

حين سألته عن سبب انخراطه في هذه التجربة قال إن “سبب الهداية شخص معي يعني، كنا آتين من الاستراحة، راجعين من الاستراحة للمنزل قبل صلاة الفجر، شغّلنا المكيف نريد ننام، أخذنا غفوة قليلة ولّا هو يوقظني، يقولي قوم خلينا نصلي، فجاوبته كيف نصلي نحنا اصلاً عقلنا مو موجود يعني، فاقدين العقل”.

سألته: هل كنتم تحت تأثير الكحول؟

فأجاب: حشيش حشيش.

استجاب محمد لإلحاح صديقه وصلى معه صلاته الأولى مطلع عام ٢٠١١ تحت تأثير الحشيش، وبعد عام ونصف سيبدأ رحلته للجهاد في سوريا، ليس فقط “لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة”، بل “لإصلاح حال أهلها وردهم إلى الطريق الصواب” كما يقول.

اترك تعليقاً