الحياة الاجتماعية وكتاب الأغاني
بقلم د/ شيرين العدوي
تقوم الحياة الاجتماعية على ما يسمى بـ “الظاهرات الاجتماعية” وما يسميه ابن خلدون “واقعات العمران البشرى” أو “أحوال الاجتماع الإنسانى” ولا شك أن هذه “الظاهرات” أو “أحوال الاجتماع الإنسانى” كثيرة ومتشعبة وينظر إليها من زوايا مختلفة ؛ إذ يمكن النظر إليها من ناحية “وظائفها” أى الأغراض التى ترمى لها ، والنواحى التى تقوم بتنظيمها ؛ ويمكن أن ينظر إليها من ناحية علاقتها بالتفكير والعمل ؛ كما يمكن النظر إليها من ناحية استقرارها وتطورها. وفيما يتصل بالجانب الأول ، وهو وظائف الظاهرات الاجتماعية أو أغراضها ، فإننا نجد أنواعًا متباينة منها : “النظم العائلية التى تتعلق بشؤون الأسرة ، وتنسيق العلاقات التى تربط بعض أفرادها، وتحدد حقوق كل منهم وواجباته ؛ وذلك كنظم الزواج والطلاق والقرابة والميراث وما إلى ذلك، ومنها النظم الاقتصادية، ومنها النظم القضائية، ومنها النظم الخلقية التى تعنى بتمييز الفضيلة من الرذيلة والخير من الشر، ومنها النظم الدينية التى تتعلق بالعقائد وفهم المقدس وما وراء الطبيعة، ومنها النظم اللغوية التى تتعلق بطريقة التفاهم بين أفراد المجتمع ومنها النظم الجمالية التى يترسمها المجتمع فى شؤون الجمال ومظاهر الفن من أدب وشعر وموسيقى وغناء. وإذا نظرنا إلى هذه الظاهرات من ناحية علاقتها بالتفكير والعمل تبين لنا : “أنها تنقسم إلى قسمين : أحدهما يتمثل فى قواعد تشرف على التفكير الإنسانى؛ كالقاعدة الخلقية التى توجب على الفرد أن يعتقد أن الصدق فضيلة وأن الكذب رذيلة، والقسم الآخر ويتمثل فى قواعد تشرف على العمل الإنسانى ، كالقاعدة التى توجب على من يريد الزواج أن يتعاقد فى صورة خاصة مع الطرف الآخر الذى يريد الاقتران به. وتنقسم هذه الظاهرات أيضًا إلى قسمين إذا نظرنا إليها من ناحية استقرارها وتطورها أحدهما يتمثل فى نظم ثبتت واستقرت ، وأصبحت جزءًا من شريعة المجتمع ، كالنظم العائلية والسياسية والقضائية والدينية والخلقية التى يسير عليها المجتمع بالفعل، ويتمثل الآخر فى تيارات تطورية لم تستقر بعد ، ولكنها تشق طريقها نحو الثبات والاستقرار، وذلك أن الظواهر الاجتماعية من سننها التطور والتغير ، فهى تختلف باختلاف المجتمعات ومقتضيات الحياة ، وتختلف فى المجتمع الواحد باختلاف عصوره. ولا شك أن هناك كثيرًا من “الظاهرات الاجتماعية” التى يحفل بها كتاب “الأغانى” ، بعضها عريق فى المجتمع العربى “كالعصبية” مثلاً ، التى توارت حينا بظهور الإسلام ، ثم أطلت برأسها مرة أخرى فى العصر الأموى لعوامل ساعدت على عودتها وانتشارها، بل ربما من لحظة الإمساك زمام الحكم من قبل قريش في سقيفة بني ساعدة، بالإضافة إلى أن هناك ظاهرات طرأت على المجتمع الإسلامى ، وأتيح لها من العوامل ما أذكى أوارها “كالشعوبية” مثلاً فى العصر العباسى ؛ وبعضها كان طارئًا دفعت به رياح التغيير والتطور فذاع وانتشر كظاهرة “الغناء”؛ ورصد هذا وغيره ظهر جليا في كتاب “الأغانى”. فلماذا كتاب الأغاني؟! لأن مادته غنية ثرة بالتاريخ الذي لم يجليه أحد من قبل، ولم يعرضه على أحداث التاريخ الرسمي لتظهر الحقيقة الغائبة بين المروايات. كما أن كتاب الأغاني من كتب التراث المهمة فقد حفظ لنا كثيرا من روايات مؤرخين ضاعت مؤلفاتهم فكان الكتاب حافظا لتراث أمه. وسأحاول في المقالات القادمة أقدم للقراء وجبة تاريخية مبسطة لمجهود علمي أخذ من عمري ثماني سنوات، رابطة التاريخ بالواقع المعاش لنعرف أن التاريخ نبراس يهتدى به. ولا مستقبل بلا تاريخ.