الملك امنحتب الثالث صاحب طريق الكباش

كتبت – مروة الحمامصي

كثير منا تأمل في تمثال الملكة “نفرتيتي” الشاهد على براعة الفنان المصري الذي وصل حد كبير من الإتقان , والتي كانت زوجة للملك “أمنحتب الرابع” الذي غير اسمه إلى “اخناتون” وقاد ثورة دينية وفكرية ووحد الآلهة في إله واحد هو آتون أو قرص الشمس ونقل العاصمة من واست ” طيبة ” إلى “اخيتاتون ” في تل العمارنة بمحافظة المنيا الحالية,ذلك المناخ الجديد لم يأت من الفراغ فقد اعتلى أمنحتب الرابع عرش مصر ووجدها تنعم بالرخاء الاقتصادي والفكري والاستقرار السياسي وكان ذلك نتاجاً لماتركه سلفه و أبوه ” أمنحتب الثالث” , مماجعله يتفرغ لدينه الجديد ويقود ثورته الفكرية . وإذا تناولنا سيرة أبيه الملك “أمنحتب الثالث “تاسع ملوك الأسرة “18” في الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديم , سنجده قد تميز بأشياء عديدة, منها : فترة حكمه التي تجاوزت خمس وثلاثين عاماً , والتي ساعدته على الاستقرار و الرخاء الإقتصادي والذي جعله يهتم بالعمارة والفنون وظهر ذلك جلياً في معبد “الأقصر” الذي بناه لعبادة الثالوث ” آمون” وزوجته” مونت ” و ابنهما “خنسو” إله القمر, ويعد ثان معابد طيبة الكبرى , ربطه أمنحتب الثالث بمعبد الكرنك بطريق نطلق علىه اليوم بطريق ” الكباش ” زين على جانبيه بتماثيل على شكل أبي الهول بلغ عددها 500 تمثال على الجانبين , لها أجسام الأسود ورؤوس الكباش حيث يرمز الأسد للقوة والشجاعة و الكبش رمز آمون حيث قوة الخصب والإنتاج . وسجل في ذلك المعبد نص الولادة الألهية لنفسه كما فعلت الملكة حتشبسوت حيث اعتبر نفسه وريثاً إلهياً لعرش مصر من أبيه آمون , وكان له 600 تمثال للإلهة سخمت – ابنة رع وربة الحرب لها جسد امرأة و رأس لبؤة – في معبد” موت ” بالكرنك , وبنى في طيبة الغربية قصراً ومعبداً جنائزياً هدمه الملك ” مرنبتاح ” عند تشييده لمعبده ولم يبق منه سوى تمثالان على جانبي الصرح والمعروفين باسم تمثالا”ممنون”. وعمت انجازات أمنحتب في العمارة الدينية مصر , حيث بدأ انشاء جبانة العجول “السيرابيوم” بسقارة , وأقام تماثيل القرد للإله تحوت في الأشمونين , كما كانت له مبان أخرى في أبيدوس والكاب و أتريب وتل بسطه , وتميزت كل انجازات أمنحتب المعمارية والفنية بتحررها من الأشكال التقليدية الصارمة , والتي ظهرت بوضوح في فكروفن آثارخلفه أمنحتب الرابع من رقة المشاعر.وقد اهتم أمنحتب الثالث بعبادة الشمس حيث كان له آثار بهليوبوليس “عين شمس ” فكانت اشارة لزيادة الإهتمام بآتون أو قرص الشمس . وكانت له آثار في النوبة حيث بنى معبداً في اليفانتين , وآخر في وادي السبوع لآمون , ومعبداً في “عينبه” لعبادة “حورس” الجنوبي , وكذلك معبداً في صولب لعبادته هو وزوجته الملكة “تي” والمعبود “آمون” . أما سياسته الخارجية فقد امتد تأثيرها لما بعد وفاته , وربما كانت تلك السياسة قد كتبت في سجل قدره , فكانت البداية قبل ميلاده حيث كان والده الملك تحتمس الرابع غير مهتم بإرسال الحملات لآسيا نظراً لحالة الاستسلام والسكون التي أظهرها جيران مصر الآسيويين , وإن كان هذا ظاهرياً فقط وبمرور الوقت سيثبت عكس هذا . على كل حال فقد أراد الملك تحتمس الرابع في توطيد العلاقة مع حاكم “ميتاني “الملك “أرتاتاما” –في شمال سوريا – واتحاده معه لدعم قوته ضد الحيثين في شمال وسط الأناضول , فتوطد هذا الاتحاد بالزواج السياسي بين تحتمس الرابع وابنة حاكم “ميتاني” الأميرة “موت إم ويا” , وكسربذلك الملك تحتمس الرابع القاعدة الشرعية التي كان ينتهجها ملوك مصر القديمة بالحرص على الاقتران بالزوجة الملكية للتأكيد على شرعية الحكم , فكان هذا اتجاهاً معاكساً لتوطيد الحكم وقد نتج عن تلك الزيجة ابنا صار فيما بعد , الملك ” أمنحتب الثالث” فكان ذلك الملك يجري في عروقه دماء غير مصرية ومما لاشك فيه ذلك كان مؤثراً على سياسته الخارجية . وقد تزوج أمنحتب الثالث من أميرة مصرية تدعى سات آمون , كانت ابنة تحوتمس الرابع من أميرة مصرية , ولم يقم أمنحتب بحملات تأديبية لآسيا, حيث كان حكام آسيا يثبتون الولاء لمصر بإرسال الجزي والهدايا . ومثلما لجأ والده “تحتمس الرابع” للزواج السياسي لتوطيد علاقاته الخارجية فعل ابنه ايضاً بل توسع في ذلك , فقد قامت مملكة الحيثيين -الذي كان اشتباكها وشيكاً مع مصر- بقتل ملك ميتاني حليف مصر بيد حليفها “عبدي شرتا”حاكم أمورو, بل وقام باعلان نفسه وصياً على العرش , ولكن فشل كل ذلك وقام الملك الجديد لميتاني “توشراتا ” بتزويج ابنته “تادوخيبا” لملك مصر لتوطيد علاقته به . وفي تلك الأثناء كانت بابل حليفة مصر, لها مطامع في آشور التابعة لميتان حليفة مصر , فكان نتاج ذلك الجو المتوتر المتشابك المعقد أن حرص الملك “كاريجالزو” ثالث ملوك الأسرة الكاشية على زواج ابنته بالملك “أمنحتب الثالث” لينال الحماية المصرية مثله مثل ملك ميتاني وملك أرزاوا . وكذلك ليحصل على عطايا مصر من الذهب والفضة والنحاس و اللازورد التي كانت تجلبها من آسيا وتهديها لحلفائها , وتلك الموارد كانت هامة في المشروعات العمرانية وخاصة الدينية . ومافعله “كاريجالزو” كرره ولده وخليفته “كادشمان-إنليل الأول ” .فقد صاهر أمنحتب الثالث وزوجه ابنته ووثقت وسجلت رسائل العمارنة كافة تفاصيل الزيجة من تكاليف وتبعات وفق التقاليد العراقية القديمة . وقد أرسل ملك مصر مبعوثاً مصرياً لمصاحبة ابنة “كادشمان أنليل” لمصر , فتجرأ الملك “كادشمان أنليل ” أن يطلب من “أمنحتب الثالث” أن يرسل له أميرة مصرية ليتزوجها فكان الرد عليه:” أنه منذ أمد بعيد لم تقترن ابنة ملك مصري من شخص أجنبي “.فعاود طلبه بأنه يريد أي مصرية ليتزوجها مدعياً أمام شعبه أنها أميرة مصرية , وذكر ملك مصر أنه وافق على طلبه لابنته , فرفض أمنحتب الثالث رفضاً قاطعاً لمخالفة ذلك الأعراف المصرية , ممايوضح النظرة الفوقية التي كان ينظرها ملك مصر لملوك بابل , وكان لإتمام تلك الزيجة الشرط الصريح بإرسال مصر للذهب , فكان الرد المصري بما اثبتته الوثائق أن العروس قد ارسل لها خمس عربات محملة بالأثاث الفاخر المطعم بالعاج والمصفح برقائق الذهب , وهذا لم يرق للملك “كادشمان أنليل ” , مثلما لم يرق من قبل “توشراتا” حاكم “ميتاني” , حيث كانت مصرترى أنها أقوى من تلك البلاد ولا يجب أن ترضخ لطلباتهم حتى أن مبعوثي تلك البلاد كانت مقابلة الملك لهم تتميز بالفتور والتعالي . على أن الملك المصري لم يهنأ بتلك الزيجة فقد ماتت العروس البابلية بالطاعون , ومثلما فعل “كادشمان أنليل ” تكرر نفس الشيء مع ابنه “بورنابوش الثاني ” الذي صاهر ملك مصر , حرصا منه على التحالف المصري البابلي أو حتى التنازل ليصل إلى حد التبعية لما كان يواجه بابل من مخاطر من تنامي قوة آشور وتهديد قبائل السوتو لحدودها وطرقها التجارية . وكان نتيجة لتلك الزيجات السياسية من حكام آسيا , أن اطمئن الملك “امنمحات الثالث ” لحدوده الآسيوية التي كان يصونها أصهاره ومن يدينون له بالولاء , ولم تعد هناك حاجة للحملات العسكرية . أما سياسة الملك الخارجية مع النوبة فقد قام في العام الخامس من حكمه بتجنيد فرقة نوبية لتأديب القبائل النوبية في أقصى الجنوب على الحدود المصرية السودانية , و بالنسبة للحدود الغربية فقد سجلت آثار الأقصر ذكر قبائل “المشوش” إحدى الجماعات الليبية , كما أن لوح أنشودة النصر في النوبة ذكرت أنه كان يسيطر على قبائل “التحنو” الليبيين المعروفين بالأقواس التسعة . ومثلما تزوج “أمنحتب الثالث” من الأميرة المصرية و الأميرات الأجنبيات , كن بالنسبة له صفقات سياسية وساكنات بجناح الحريم إلا زيجة واحدة له تميزت بكونها أخذت منحى جديداً في التقاليد الأسرية الملكية بمصر القديمة , وكانت تلك الزيجة في العام الثاني من حكمه , من فتاة مصرية تدعى “تي” ابنة أحد نبلاء أخميم ومن كبار ضباط الجيش ويدعى “يويا” وزوجته “تويا”والتي كانت من عائلة على علاقة وثيقة بالقصر الملكي . وقد أنجبت لأمنحتب الثالث ستةابناء , ذكرين أكبرهما مات في حياة أبيه والثاني صار الملك “اخناتون” , و أربع إناث حملت اثنتين منهن لقب ملكة . وكانت الملكة “تي” من قوة الشخصية وحب الملك لها , أن تركها تدير شئون مصر الداخلية والخارجية حتى أن المراسلات الخارجية الآتية من آسيا كانت تأتي أحياناً باسمها , ولقبت بلقب “الزوجة الملكية العظمى ” , وشاركت الملك في الأعياد الشعائرية الكبرى مثل عيد سد – لم يحتفل به كثير من الملوك لأنه بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على العرش – كما صورت على شكل أبي الهول , وخصص لها الملك معبداً في سرنقة الواقعة بين الجندلين الثاني والثالث , وحفر لها بحيرة في الجزء المنخفض من بركة تقع جنوب معبد مدينة هابو و ألحقها بقصر في شرقه . وقد عاشت الملكة “تي” للعام الثامن من حكم ابنها “اخناتون ” بنفس الشخصية القوية المؤثرة في شئون الدولة فكانت الخلافات على أشدها بينها وبين زوجة ابنها الملكة “نفرتيتي” , حيث تعودت الملكة الأم أن تكون السيدة الأولى , ولم تتقبل أن تكون لمصر ملكة غيرها .

اترك تعليقاً