الحكومة البريطانية غرمت العراق مئة مليون دولار بسبب المقبرة البريطانية وتوقعات الشارع العراقي بأنها مقبرة وهمية
تحقيق /إنعام عطيوي
وزارة الخارجية البريطانية:- ( لا تنسوا بان هذه رفات جندا كانت تحمل
علم بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس)
للتاريخ رهبة وللماضي قدسية تنبع من تراكمات وأنقاض الزمن، ومن خلال صفحات التاريخ ومزيج حاضرنا وماضينا مع ما نتأمله من مستقبلنا، وفي الذاكرة محطات توقف تستوجب علينا استذكارها فتعود بنا الى تاريخ العراق وسنواته ورموز ومواقف لأشخاص أخذت من تاريخنا حيز وتركت في أراضينا مقابر وأضرحة لموتاهم، ومن هذه المقابر والأضرحة هي المقبرة الانكليزية التي تعتبر احد الشواهد التاريخية على حقبة زمنية معينة وثقت أحداث للحرب والدمار والاحتلال الذي كان في العراق والتي تضمنت رفات عدد من الجنرالات البريطانيين وهي الكائنة في منطقة الوزيرية باتجاه البوابة الشمالية لبغداد من الجهة المقابلة للسفارة التركية الحالية، والتي تحيطها مراكز التعليم العالي من الكليات التابعة لجامعة بغداد، والتي تعد المقبرة الصديقة لعدد كبير من الطلبة الذين يدرسون في مجمع باب المعظم لجامعة بغداد، لكنهم للأسف لا يعون مصداقية كونها مقبرة وتضم رفات حقيقية لضباط بريطانيين ويعتبروها متنزه أو حديقة لا يخشون أرواح ساكنيها.
ويعود تاريخ هذه المقبرة إلى أيام الحرب العالمية الأولى في عام 1914 حيث وري جثمان بعض قتلى الجيش الانكليزي والمتحالفين معهم عند دخول العراق وبالذات بغداد، رفعوا شعار (جئنا محررين لا فاتحين). وتضم هذه المقبرة بحدود 2500 ضريح لجنود وضباط من الجيش البريطاني، والاسترالي، والهولندي، والباكستاني، والهنود، والسيخ وبعض من العرب المصاحبين للجيش كمترجمين، ولان وجود هذه المقبرة بالقرب من المجمع الجامعي للكليات والتي تعتبر المركز العلمي لتحصيل شهادات البكالوريوس اكتشفنا إن اغلب طلاب المجمع لا يعون أي معلومة عن هذه المقبرة رغم إنها انيستهم في الطريق وجليستهم في متنزهاتهم القريبة من المقبرة كما انها والملاذ المناسب للعشاق الذين يختلون بحبيباتهم بالقرب من أجواء تكاد تكون هي الأقرب إلى الرومانسية الميتة لكن من نوع خاص، فالأضرحة لرفات الضباط البريطانيين تشهد كل يوم جلسات لعشاق يتناغمون الحب على مقابرهم ويتبادلون الزهور من على أضرحتهم، والبعض الأخر يدرس وقت الامتحانات بالقرب من هذه القبور لما تمتاز به من أجواء الهدوء، والى هذا عمدنا إلى اللقاء الميداني بالطلبة القريبين من المقبرة.
مقبرة أليفة وغير مخيفة
- الطالب مصطفى يد الله /طالب كلية فنون جميلة/مرحلة ثانية :- يقول أنا الذي اعرفه إنها مقبرة لأشخاص بريطانيين لكن لا اعلم من هم وبصراحة أحب هذه المقبرة فشكلها يؤنسني وهي مرتبة ومنظمة بشكل تجذب الارتياح ودائما أتساءل يا ترى أصحاب هذه القبور هل استطاع أهلهم توديعهم وهل يعرفون بان جثمانهم هنا مدفونة، وأنا حين أمر من أمامها يوميا للدوام لا اشعر برهبة الخوف من المقابر كما أشعرها في مقابرنا العادية فهي لا تحمل رهبة المقبرة.
- الطالبة أية عصام/ طالبة في معهد إدارة واقتصاد مسائي/ تقول أنا أمر كل يوم من جانب هذه المقبرة وأعود في المساء أسير بالقرب منها ولا اشعر بأي خوف منها كما اشعر به حين اذهب للمقابر التي نزورها، وبصراحة لم أكن اعلم إنها مقبرة وتوقعت أن تكون مقبرة وهمية، فلا اصدق بوجود جثمان مدفونة فيها إلى أن اخبرني والدي في احد المرات إنها تحوي جثمان بريطانيين قضوا نحبهم في العراق أثناء الحرب العالمية ولا اعرف من هم ولا اعرف أسماء قبورهم، وبصراحة هي لا تحمل وحشة المقابر كما تحملها مقابرنا فهي مرتبة بشكل جميل ولا نخشى بالسير قربها في نهاية الدوام وخاصة أصحاب الدوام المسائي فاغلب المواصلات تقف قرب هذه المقبرة.
- هديل احمد طالبة كلية التربية / جامعة بغداد تقول:- اسمع كثيرا إن هذه المقبرة للانكليز ومدفونين فيها لكن لا اصدق بوجود جثامين حقيقية، ويقال إنها مقابر وهمية ولا اعتقد بمصداقية وجود قبور حقيقية فيها لأنها لا تحمل رهبة المقابر وهي مقبرة كما يقول المثل أليفة وغير مخيفة فنحن نعلم إن المقابر دائما تكون مخيفة.
تحتوي هذه المقبرة على مرقدين لشخصيتين مهمتين في تاريخ احتلال بغداد واستقلالها
- الأستاذ احمد زردشت/ كاتب ومؤرخ ومؤلف وأديب التقينا به حول هذا الموضوع وأغنانا بمعلومات قائلا:- لقد تم تنظيم هذه المقبرة بشكل مرتب نهاية السبعينيات من القرن الماضي وتم تزهير المقبرة بالأشجار والزهور حتى أصبحت تكاد تكون روضة من رياض الأرض، وأتذكر جيدا عندما كنت ازور تلك المقبرة لاستنشق الهواء النقي وأمتع ناظري بمنظر الأشجار والزهور التي يتوسطها صليب التضحية كشاهد بارز على العصور للتاريخ. كنت أقراء ما كتب على شواهد القبور المنحوتة من الحجر على شكل صليب حيث دفن في هذه المقبرة الجنرال (ستانلي مود) قائد القوات البريطانية التي احتلت بغداد يوم 11 آذار 1917 حيث توفي فيما بعد اثر إصابته بمرض الكوليرا . كما دفن في هذه المقبرة عالمة الآثار (جيرترود بيل) المعروفة ب (مس بيل) وهي من مواليد 14 تموز1868 وقد توفيت في 12 تموز 1926 وكانت مستشارة المندوب السامي البريطاني السير (برسي كوكس) وقد دخلت العراق عام 1914 وكانت تتمتع بعلاقاتها الواسعة وكثرة معارفها وخبرتها المستفيضة عن العراق وهي التي اقترحت تأسيس مجلس الدولة العراقية وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، كما كان لها الدور الكبير في تأسيس المتحف العراقي، وان عوامل التعرية وتقادم الزمن وعبث العابثين عملت مجتمعة على محو أثار كثير من الكتابات التي دونت على الشواهد كما تعرض الصليب التذكاري الموجود في المقبرة إلى أضرار بليغة، اثر انفجار سيارة مفخخة قرب سياج المقبرة عام 2009، ولقد كانت لجنة مقابر الكومنويلث تقوم برعاية وإدامة المقبرة سابقا إلا انه ومنذ تسعينيات القرن الماضي تم إهمال المقبرة وأصبحت مرتعا للحيوانات السائبة ومرمى للنفايات …في بلد كان وما زال فيه الإنسان ارخص ما يكون فكيف بأشلاء ومقابر البشر.
الحكومة البريطانية غرمت العراق مئة مليون دولار بسبب المقبرة البريطانية
- الدكتور فارس إبراهيم الكاتب/ رئيس المكتب الإقليمي للدراسات الإستراتيجية للشرق الأوسط حدثنا عن الجانب السياسي والإعلامي لوجود هذه المقبرة في بغداد:-
والحديث للكاتب يقول تعتبر المقابر البريطانية في بغداد هي مقابر بروتوكولية، بمعنى إن هناك اتفاقية بين الحكومة العراقية والحكومة البريطانية وقع في عام 1958 تحديدا بعد الانقلاب العسكري الذي حدث على الملك أبان حكم (عبد الكريم قاسم) وهذه الاتفاقية تشير إلى ما لا يقبل الجدل إن أي تلاعب بنقل هذا الرفات لا يمكن أن يتم إلا بموافقة الحكومة البريطانية وبما إن الحكومة البريطانية وقعت ذلك وبصمته في الأمم المتحدة وفق المادة (136) والتي تشير إلى انه لا يمكن التقرب أو التحرش أو مجرد نقل هذه الرفات إلا بعلم الحكومة البريطانية، وأضاف إلى ذلك إن الحكومة العراقية وقعت على بروتوكول واضح المعالم ينص على إدامة وتحسين وعدم التعرض لهذه المقابر بأي شكل من الأشكال، ولعل أدل دليل على ذلك بان (صدام حسن) حينما حاول أن يزيلها عام 1997 اعترضت الحكومة البريطانية وغرمته مئة مليون دولار، واضطر مرة أخرى أن يقيم مقبرة لهم بالقرب من الطب العدلي قرب وزارة الصحة وتحسين المقابر وتسييجها وترتيبها وحتى تشجيرها مقابل السفارة التركية حاليا في منطقة باب المعظم وبذالك أعطت هذه المقابر دلالة على احترام رفاتها، وبريطانية كانت ذكية جدا لأنها أرادت أن توحي كما تصنع الجسور في كل بلد وتلاحظون إن اغلب الجسور الموجودة في العراق تشير إلى انها من صناعة بريطانية، وان إصرار بريطانية على وجود هذه المقابر دلالة على عرشها وطول باعها وعلى سطوتها في منطقة الشرق الأوسط ضمن حقبة معينة التي كانت تسمى (بالدول التي لا تغيب عنها الشمس) وهي دلالة على سطوتها السياسية والعسكرية، وهي مصرة على بقائها وعدم إزالتها بالرغم من إن (صدام حسين) منحهم ثلاثة مليون دولار من اجل إزالتها إلا إن الحكومة البريطانية مع ضائقتها المالية أصرت على بقاء هذه المقابر، لأنها في ذلك دلالة سياسية وعسكرية وتاريخية تعتز بها الحكومة البريطانية وحين وجهت وزارة الخارجية العراقية كتاب إلى الخارجية البريطانية في (6/7/1999) طلبت فيها إزالتها ردت وزارة الخارجية البريطانية بالشكل التالي ( لا تنسوا بان هذه رفات جندا كانت تحمل علم بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس) وهي دلالة على احترام الاتفاقيات وبذلك لا يمكن للعراق أن يغيرها إلا بموافقة أممية وبتصويت وموافقة الحكومة البريطانية وان هذه المقابر سوف تبقى الى ابد الدهر كما يبدوا.
- هل أنصفت هذه المقابر من ناحية الإعلام السياسي في العراق، فهي لا تُدرس وليس لها أي ذكر في تاريخ العراق واغلب الذين يسيرون بالقرب منها لا يعون تاريخ هذه المقابر ولا سبب وجودها؟
– طبعا هناك تعتيم من قبل الحكومة العراقية لأنها تمس السيادة الوطنية وبالتالي لا يشار إليها ولكن حين تدخل إلى مواقع صحيفة في بريطانيا مثل (ساندي، وديليمير، والتايمز البريطانية) سنجد هذه البنود موجودة ومنشورة تعتمد في التسعينيات من القرن المنتهي فبريطانيا تنشرها لان في ذلك حفاظ لكرامتها ولسطوتها ونفوذها وتأكيد لسطوتها العسكرية والسياسية، لكن العراق يتعتم على هذا الأمر لان في ذلك ثلم إلى حد ما في السيادة العراقية، لان مجرد وجود هذه الرفات لهؤلاء الجنود هو تدنيس كما ترى الحكومة العراقية للتراب العراقي وتأكيد لحقبة مظلمة من الاحتلال البريطاني، وبالتالي ربما يتنافى مع الدستور العراقي والاستقلال العراقي وعموما من الجانب العراقي هناك تعتيم، لكن من الجانب البريطاني فهو مفتوح ومن الممكن أن يدخل أي مواطن على المواقع السياسية وسيجد ذلك موجود تماما، وحتى لو دخل على قائمة المادة (136) سيجدها واضحة تماماً.