لم أحمل أوهاماً كثيرة بأن “الربيع العربي”، قبل سبعة أعوام، قام من أجل حقوق النساء وتحريرهن، لكني، وكثيرين غيري، توقعنا أن أي تغيير سياسي جذري تقوده مطالب الشعوب، من المفترض أن يؤثر بشكل ايجابي على حقوق الإنسان ووضع المرأة.
حين ننظر اليوم، مع نهاية عام 2018، إلى تلك اللحظة في 2011، نرى كثباناً من خيبات الأمل. فما حدث من ثورات مضادة قلبت الحرية والعدالة الاجتماعية إلى حالة من الفوضى والصراعات، لم تسلم منها المرأة العربية، فتوجهت إليها سهام الانتقاد والانتقاص.
أشعر أن مجتمعاتنا تبنت توجهاً لمعاقبة المرأة؛ فإذا ما قالت رأيها في العلاقات الإنسانية، كما حدث مع المذيعة المصرية رضوى الشربيني حين شجعت على الطلاق في أغسطس/آب الماضي، تعرضت لتقريع وسخرية قاسيين والاتهام بأنها “معقدة وكارهة للرجال”، أما إذا ما حصلت على حقوقها، تفجرت موجة تكفير عارمة كالتي ضربت تونس حين طرحت مسودة قانون المساواة في الميراث.
وإذا ارتدت فستاناً جريئاً، فالتهديد بالقضاء يغدو خطوة واقعية اتخذها كثرٌ ضد الممثلة المصرية رانيا يوسف بسبب فستانها في حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي. وإن شاركت المرأة في الانتخابات السياسية، وانتقدت الوضع القائم، فإما أن يسرّب فيديو جنسي بهدف ابتزازها، كما حدث مع المرشحة السابقة للبرلمان العراقي انتظار الشمري، أو يتم تصفيتها بالرصاص كابنة بلدها الحقوقية سعاد العلي، أو تُقتل علناً كما فعل شاب سوري حين أطلق الرصاص على شقيقته بكل فخر أمام الكاميرا.
من السهل ملاحظة العلاقة بين تدهور أحوال المرأة العربية وأفول الأمل بالتغيير. ولم تكن هيئتها وجسدها خارج المعادلة، أو كما تقول سيمون دي بوفوار “المرأة كما الرجل هي جسمها. بيد أن جسمها هو شيء آخر غيرها”، أي أنه لا يمكن النظر إلى جسد المرأة بمعزل عن مفهوم الجسد السياسي، وارتباطه بالبيئة الثقافية والاجتماعية.
وعلى الرغم من الهزة التي أحدثتها فكرة كون الجسد أداة للتعبير السياسي، حين أحرق البوعزيزي جسمه ردا على ظلم حكومي في ديسمبر/ كانون الأول عام 2010، وتبعه مئات ألوف المواطنين الذين باتوا في ميادين العالم العربي يتظاهرون ويعتصمون بكيانهم الجسدي، لم تتغير النظرة إلى جسد المرأة، بل بقي من المحرمات.
وصلت اليوم هذه النظرة لتترجم إلى احتقار أية امرأة لا ترتدي ما يناسب الشريعة والتقاليد الاجتماعية، حيث تنالها أشد الشتائم والأوصاف رداً على صورها في وسائل التواصل الاجتماعي، أو تعليقاً على أخبارها في المواقع الفنية أو خلال الحياة اليومية.
هذا التدهور لم يحدث فجأة، بل تدرج منذ حوادث التحرش الجماعي في مصر، وحالات الاغتصاب التي حدثت في ليبيا لنساء محليات وأجنبيات. ولا يمكن نسيان الصورة الفارقة في ديسمبر/كانون الأول عام 2011 لعساكر من الجيش المصري يسحلون فتاة انكشف نصفها العلوي إلا من صدرية زرقاء، في صدمة للمجتمع بنسائه ورجاله، وكأن المرأة تتم معاقبتها على مشاركتها في ثورات الربيع العربي.
ووقع كل ذلك في سياق ترهيب استمر سبعة أعوام كي تعود المرأة إلى البيت، وترسخت معه معايير حول النساء وملابسهن. ولم يعد أحد يتذكر أنها بقيت 18 يوماً في ميدان التحرير حين اختفت فروقات الأجساد الفردية والجنسانية بين الذكور والإناث، وأصبح الهدف واحدا؛ البقاء في الشارع حتى إسقاط النظام.
لذلك لا يمكن إلا اعتبار ما يحدث من خروج بعض النساء عن هذا النمط المتوقع، سوى شجاعة وتحدٍ للنفاق. وكانت البداية في يوليو/ تموز من عام 2011 حين رفعت الناشطة سميرة إبراهيم دعوى انتهاك ضد المجلس العسكري المصري في القضية الشهيرة بـ”كشف العذرية”، ومواجهة الناشطات المصريات للتحرش في ميدان التحرير خلال عامي 2012 و2013 بالحديث عنه عبر الإعلام، وفضح مرتكبيه دون الخوف من وصمة العار.
واليوم يأتي فستان رانيا يوسف خروجاً عن التعليمات، وليكون بمثابة صدمة مجتمعية مارستها رانيا سعياً وراء الاختلاف، ولكنها سرعان ما تراجعت عن خطوتها حين رأت تطور الهجوم عليها ليصل إلى عائلتها، واعتذرت في مشهد إذلال حزين اكتملت فيه الأبهة الذكورية خلال لقاء مع المذيع المصري عمرو أديب.
لدي قناعة لو أن هذا الفستان ارتدته الممثلة رانيا في حفلة على شاطئ البحر وليس في مهرجان سينمائي، لم يكن سيثير تلك الضجة، لأن جزءا كبيرا من هذه المحافظة المجتمعية مزاجية؛ ويحضرني هنا ما كتبه أحدهم معلقاً على مشاركة الممثلة داكوتا جونسون بطلة الفيلم المعروف بجرأته Fifty Shades of Grey في مهرجان مراكش السينمائي، قبل أسبوع، أن الشعب المغربي رحب واحتفى بها رغم جرأة فيلمها، في حين قام من قبل بالاعتداء على الممثلة المغربية لبنى أبيضار بطلة فيلم “الزين إلي فيك”، بسبب جرأتها خلال مشاهد فيلمها الذي تناول مشكلة الدعارة في المغرب.
هؤلاء النسوة المحليات يثرن حفيظة المجتمع التي وصلت اليوم إلى أقصاها، فتتم مهاجِمتهن بقسوة، ويبدأ الجميع يلح: لماذا فعلتِ هذا يا رانيا؟، في محاولة للانتقام منها، كأنها كشفت ملابس الجموع وعرتهم.
ولم تكن الممثلة رانيا يوسف في حاجة لأن تكون نسوية، أو تحمل لواء فكرة ما، كما فعلت سميرة إبراهيم ورضوى الشربيني وغيرهن، كي تفهم ما يريده المجتمع منها، بل غذت ببساطتها ما يرغب بسماعه حين قالت في لقاءات إعلامية “لقد ارتفعت بطانة الفستان”.
والتبرير الحاضر دوماً حين يتم انتقاد النساء؛ بالخوف على قيم المجتمع والأجيال الجديدة، فتتضح هنا فكرة الخوف من الجسد الأنثوي، باعتباره مصدراً للفتنة، وهي فكرة تمتد عميقاً في القصص التاريخية باعتبار المرأة السبب وراء آلام البشرية حين أغوت آدم بأكل التفاحة والسقوط من الجنة إلى الأرض.
وإلى التاريخ أيضاً يرجع مصطلح كراهية النساء، أو بالأحرى تعود سلوكياته، وهو ما يسمى باليونانية “الميسوجينية”. ومن المهم أن نعرف أنه قادم من المصطلح اللاتيني Gynophobia أي الخوف من النساء.
ويبدو أننا اليوم نعاصر هذه النزعة التي تجمع بين كراهية النساء والخوف منهن، حتى في بلاد المغرب العربي التي طالما كانت تعيش فيها المرأة ظروفاً أكثر تحرراً من بقية الشرق الأوسط، لنجد حملة “كن رجلاً”، التي انطلقت في يوليو/ تموز، تدعو الرجال إلى مراقبة زوجاتهم وبناتهم قبل خروجهن إلى الشارع، ومنعهن من ارتداء لباس السباحة، في إغفال لإرادة المرأة وعقلها.
هذا كله يأخذني إلى وقت ليس ببعيد حين مضى الشباب العربي للتغيير، وكان هذا المكبوت المجتمعي أحد دوافعه، لكن ما يحدث اليوم يخلق تساؤلا كبيراً؛ ألهذا قام “الربيع العربي”؟ وكيف حدثت هذه الردة؟
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتبة، لا عن رأي بي بي سي.