مقالات

رحلتي إلى الهند، بلاد بوذا (2)
الهند: بلاد المتناقضات



بقلم المهندس رسول العذاري

في كل ركن من أركان الهند، كنت أشعر وكأنني أعيش مشهدين في آنٍ واحد. ثنائية مذهلة لا يمكن فكّها بسهولة: الفقر المدقع إلى جوار الثراء الفاحش، البساطة العفوية تتعايش مع تعقيدات حضارية عمرها آلاف السنين، التكنولوجيا الحديثة تندمج مع التقاليد الدينية، والروحانية العميقة تُجاور مادية لا تخجل من نفسها. كنتُ أحيانًا أنظر من نافذة السيارة فأرى معبدًا عمره قرون، يليه مباشرة مركزًا تجاريًا حديثًا يتلألأ بالضوء والزجاج، ثم بائعًا فقيرًا يجرّ عربة مليئة بالفواكه بجانب طالب جامعي يشرح الذكاء الاصطناعي لزميله.

الهند ليست بلدًا يسير على خط مستقيم، بل هي فسيفساء تتراكب فيها التناقضات لتشكّل نسيجًا فريدًا لا يمكن نسخه. كيف يمكن لبلدٍ أن يكون من أكبر مصدّري العقول إلى شركات التكنولوجيا العالمية، وفي الوقت نفسه يعاني الملايين فيه من الأمية؟ كيف تُطلق الهند أقمارًا صناعية إلى الفضاء، بينما لا تزال قرى كاملة تعيش دون كهرباء أو ماء نظيف؟ كيف يمكن أن تنتخب هذه الأمة ديمقراطيًا حكوماتها، بينما لا تزال تعاني من آثار التمييز الطبقي والعرقي في بعض مناطقها؟ وكيف يمكن للناس أن يسيروا في شوارع مزدحمة بالضجيج والدخان، لكنهم يبدون وكأنهم يملكون صبرًا لا ينتهي وسلامًا داخليًا يصعب تفسيره؟

الهند ليست فقط بلد التناقضات، بل بلد التعايش مع هذه التناقضات بمرونة فريدة. كأنها فهمت منذ القدم أن الكمال غير موجود، وأن التعدد لا يعني الانقسام، بل الحياة بصورتها الكاملة: متشابكة، غير مثالية، لكنها نابضة. لهذا ربما تبدو لنا الهند فوضوية، لكنها فوضى تنطوي على نظام خاص بها، على حكمة غريبة لا تُقرأ إلا بعد طول مكث وتأمل.
الهند لا تُشرح، بل تُعاش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى