العدالة تقاس اليوم بما يراه القوي عدلا لا بما هو عادل فعلا

بقلم المهندس رسول العذاري
في عالم اليوم، لم تعد العدالة ميزانًا مجردًا كما رسمتها الكتب، بل أصبحت مرآة تعكس صورة القوي لا صورة الحقيقة. لم تعد المسألة تتعلق بما هو عادل، بل بما تراه القوى الكبرى أنه “عادل بما يكفي” لخدمة مصالحها أو تبرير سياساتها. هكذا تحولت العدالة من قيمة إنسانية كونية إلى أداة انتقائية في يد الأقوى، يستخدمها حين يشاء ويتجاهلها حين تُحرجه. فما تراه واشنطن “تدخلًا إنسانيًا” قد تراه بغداد غزوًا، وما تعتبره تل أبيب “دفاعًا مشروعًا عن النفس” تراه غزة مجزرة، لكن الصوت الذي يُسمع في النهاية هو صوت من يملك الإعلام، والمال، والسلاح، والمنصات الدولية. العالم شاهد العراق يُدمَّر على كذبة أسلحة دمار شامل، وشاهد أكثر من نصف مليون طفل يموتون بسبب الحصار، وشاهد عاصمة عربية تُحتل دون تفويض أممي، ومع ذلك لم يُحاسب أحد، ولم يُعتذر أحد، بل رُوّج الأمر لاحقًا على أنه “تحرير”. وفي المقابل، عندما تحاول دولة أخرى أن تمتلك أدوات الردع أو ترفع رأسها خارج الخطوط الحمراء التي رسمتها القوى الكبرى، تُعاقب وتُحاصر ويُحرَّض عليها. هكذا يُصبح السلاح النووي خطرًا في يد إيران، وضمانًا للأمن في يد إسرائيل، رغم أن الأخيرة لا توقع على أي اتفاق رقابي دولي، وتمتلك ترسانة نووية حقيقية، لكن لا أحد يفتح هذا الملف لأنه ببساطة تحت حماية الغرب. الأمر نفسه يتكرر في فلسطين. آلاف الشهداء في غزة، دمار كامل، مجاعات، حصار، كل ذلك يُغض عنه الطرف، ويُبرر كأنه “رد على الإرهاب”، بينما الحقيقة واضحة لكل من لا يتعامى: إنها جريمة تتم برعاية معلنة من دولة تدّعي قيادة العالم الحر. وفي مجلس الأمن، حيث يُفترض أن تتحقق العدالة الدولية، يُستخدم “الفيتو” لا لحماية الشعوب بل لحماية المصالح، فلا يُدان المعتدي، ولا يُنصف الضحية، بل تُمنع حتى قرارات وقف إطلاق النار لأسباب “سياسية”. كل هذا لا يُبقي للعدالة سوى قشورها. ربما تبقى على مستوى الأفراد، أو في محاكم محلية هنا وهناك، لكن على صعيد العلاقات الدولية، سقطت العدالة تحت أقدام القوة. ومن هنا، يصبح السؤال ليس كيف نُعيد العدالة، بل كيف نكفّ عن خداع أنفسنا بأن العالم يتحرك وفقها. فالحقيقة أن العدالة اليوم لا تُقاس بما هو عادل فعلًا، بل بمقدار ما يراه القوي عدلًا… وكل ما دون ذلك صراخ في هواء