مقالات

الفصل السابع: الكوميديا السوداء للديمقراطية — بين الوهم والمقاطعة



احد مقالات مشروع كتابي (انا لست انت)
بقلم المهندس رسول العذاري

منذ لحظة سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى اليوم، ارتبطت الديمقراطية في المخيال الشعبي العراقي بمفردة واحدة: الانتخابات. لم نمارس منها شيئًا سوى صناديقها، أما روح الديمقراطية الحقيقية، بما تحمله من تداول سلمي للسلطة، وفصل بين السلطات، وحقوق مدنية، ومحاسبة، فلم نعش منها سوى العنوان.

تُجرى الانتخابات في العراق كل بضع سنوات وسط ضجيج إعلامي وشعارات براقة، ولكن كل مراقب نزيه يدرك أنها أبعد ما تكون عن النقاء. فلا يوجد قانون رصين للأحزاب، وغالبية ما يُطلق عليها اسم “الأحزاب الكبرى” تمتلك أجنحة مسلحة، تتفوق أحيانًا من حيث القوة والنفوذ على الجيش والشرطة الرسميين. هذه الفصائل لا تُخفي سلاحها، بل تُستخدم في فرض النفوذ السياسي، و من السخرية انه في قانون الاحزاب لايسمح لاي حزب ان يمتلك فصيل مسلح

لا يقف العبث عند هذا الحد، بل إن المسؤولين أنفسهم، وزراء ونواب ومدراء عامون، يعيدون ترشيح أنفسهم وهم في السلطة، مستخدمين مقدرات الدولة: سياراتها، مواردها المالية، إعلامها، وحتى موظفيها، في حملاتهم الانتخابية. يُضاف إلى هذا “الكنز الأسود”، أي الأموال المسروقة طيلة سنوات الحكم، والتي يُدخر بعضها خصيصًا لتمويل الحملات الانتخابية. فكيف لمتنافس بسيط، لا يملك سوى قلمه أو برنامجه، أن ينافس هذا الطوفان المالي والدعائي؟

وقبيل كل انتخابات، يطل علينا أحد قادة الأحزاب – أو كما يسميهم الإعلام بـ”الصقور” – ليعلن بكل ثقة: “نبدأ اليوم من خط الشروع لبناء العراق”. يتكرر هذا التصريح منذ أكثر من عشرين عامًا، ما يدفع للتساؤل: أكان هذا القائد تائهًا يبحث عن خط الشروع طوال هذه العقود؟ أم أنه يعلم تمامًا أن لا خط شُروع، بل خطفُ شرعيةٍ وانتظارُ غنيمة؟

أما عن القوانين الانتخابية، فهي نكتة أخرى. فكل دورة تُفصّل قوانينها على مقاس القوى المتحاصصة: مرة قائمة مغلقة تضمن السيطرة التامة، ومرة أخرى نصف مفتوحة لذر الرماد في العيون، ثم مفتوحة لتخفيف الضغط الشعبي، ثم يُعاد إدخال قانون سانت ليغو بمعاملات هجينة لا تُطبق في أي ديمقراطية محترمة. كل ذلك تحت شعار “تحسين التمثيل الشعبي”، بينما الحقيقة هي ضمان إعادة إنتاج السلطة نفسها.

ومن الطريف المبكي أن أحد أبرز القادة السياسيين، يخرج قبل كل انتخابات ليطالب بـ”أغلبية سياسية”، بحجة أنه لا يستطيع تنفيذ برامجه لأن خصومه يعطلونه. لكنه، ما أن يقترب خصم سياسي من تشكيل أغلبية حقيقية، حتى يعود نفس القائد للدعوة إلى حكومة “توافقية”، أي إعادة تدوير الجميع تحت عنوان “الشراكة الوطنية”. إنها فعلاً كوميديا سوداء.

الناس، الغارقون في الفقر واليأس، لم يعودوا يترجّون شيئًا من الانتخابات. بعضهم يبيع صوته مقابل بطانية، أو كيس طحين، أو وعدٍ بوظيفة لا تأتي. لقد تحوّلت الديمقراطية من وسيلة للتغيير، إلى سوق نخاسة سياسية.

في البداية، كنت من المحفزين للمشاركة. جادلت المقاطعين، ناقشتهم، بل واعتبرت المشاركة مسؤولية وطنية. لكن اليوم، وبعد كل ما جرى، وجدتني أميل للمقاطعة. هل تغيرت المبادئ؟ لا، ولكن حين تتحول المشاركة إلى تزكية للفساد، تكون المقاطعة أحيانًا أنبل.

ثم يُطرح السؤال: لماذا لم ينبثق من الناس المقاطعين أحزاب أو حركات سياسية بديلة؟ الجواب بسيط ومؤلم. الأحزاب المدنية فشلت فشلًا ذريعًا. لا مال لديها، لا نفوذ، ولا حتى ثقة الناس، لأن من تم تسويقه كـ”مدني” في البرلمان، صار في أحيان كثيرة أكثر انقيادًا لأصحاب السلطة من أولئك الذين ثار عليهم. بعضهم تحول إلى مجرد تابع، و”مدني بواجهة دينية”، أو “ليبرالي بتحالف فصائلي”.

سنعيد تدوير الرؤساء. رئيس جديد للبرلمان، وآخر للحكومة، وثالث للقضاء، لكنهم جميعًا من نفس الطبقة السياسية التي استولت على البلاد منذ عشرين عامًا. المسميات تتغير، أما التوافقات والمحاصصة فهي باقية، بل راسخة أكثر من الدستور.

فهل أذهب إلى صناديق الاقتراع؟ أم أقاطع؟

الإجابة لم تعد فردية، بل وجودية. إن كانت المشاركة تكريسًا للوضع الراهن، فربما المقاطعة هي الصرخة المتبقية في وجه سلطة لا تحترم صوت الناس، ولا وجعهم، ولا جوعهم.

> “الديمقراطية ليست صندوق اقتراع فقط، بل هي وعي جمعي، ومسؤولية أخلاقية، ونظام يعلو على النزوات، لا يتشكل بالأوراق بل بالعقول.”


وربما يحق لنا بعد عقدين من “المشاركة” أن نعيد صياغة السؤال الأساسي:
هل كانت المشكلة في صناديق الاقتراع أم في العقول التي تضع الأوراق داخلها؟
هل كانت في القوانين أم في الذين يصيغونها كل مرة وفق مصالحهم؟
أم أن الديمقراطية ذاتها تحولت إلى كلمة طيّعة، تُرفع بيد وتُذبح بالأخرى؟

في بلد لم يعد يثق حتى بالضوء في آخر النفق، تصبح المقاطعة موقفًا، لا كسلًا، وتتحول المشاركة إلى عبء ضمير، لا فخر مواطَنة.
نحن لا نعيش ديمقراطية… نحن نعيش تكرارًا مأساويًا للفرصة الضائعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى