حين يُقصى الشريف ويُكرَّم السفيه… يختلّ ميزان الوطن

رشيد الشمري
في خضمّ ما يعيشه المجتمع العراقي من اضطرابٍ في القيم وتبدّلٍ في المواقف، تبرز هذه الحكمة القديمة وكأنها وُلدت لزماننا هذا:
“حافظوا على الشرفاء ولو كانوا خصومكم، ولا تفرحوا بالسفهاء ولو وقفوا معكم.”
فهي ليست قولاً في الأخلاق فحسب، بل مبدأ في بناء الأوطان وصيانة العدالة، ودعوة لأن يُقاس الإنسان بما يحمل من ضمير، لا بما يملك من نفوذ.
لقد أصبح المجتمع العراقي اليوم ساحة تتجاذبها المصالح، وتتداخل فيها العشيرة مع السياسة، والوظيفة مع الولاء، والسوق مع الغشّ والطمع. في دوائر الدولة يُقدَّم القريب على الكفوء، وفي بعض العشائر يُنصر الظالم لأن دمه من دمنا، وفي الأسواق يُكرَّم الماكر على حساب الصادق. وهكذا تتهاوى المعايير، ويتقدّم السفيه بخطوة، بينما يتراجع الشريف بصمتٍ وألم.
إن أخطر ما يواجه العراق ليس الفقر ولا ضعف الخدمات، بل ضياع المعيار الأخلاقي الذي يُفرّق بين الشريف والسفيه.
حين يتساوى المخلص والفاسد، يفقد الناس إيمانهم بالعدل، وحين تُقصى الكفاءات لأنّها “لا تمتلك ظهرًا عشائريًا” أو “وساطة سياسية”، يتحوّل العمل العام إلى غنيمة لا إلى خدمة.
لقد لعبت العشائر العراقية عبر التاريخ أدوارًا مشرّفة في الدفاع عن الأرض والكرامة، وكانت مرجعًا في العفو والإصلاح، لكنّها اليوم تُبتلى أحيانًا بمن يسيء إليها حين يجعل منها أداة نفوذ أو باب ضغط. والعشيرة التي لا تحمي الشرفاء من أبنائها، بل تبرّر للسفهاء أفعالهم، تفقد مكانتها في المجتمع قبل أن تفقد هيبتها.
وفي الوظيفة العامة، تتكرّر المشاهد نفسها: يُكرَّم المقرّب، ويُهمَّش المخلص، ويُفتح الباب لمن يجيد التملّق لا لمن يتقن العمل. أما في سوق الحياة اليومية، فصارت الثقة عملة نادرة؛ البائع يغشّ، والمستهلك يشكّ، والتاجر يبحث عن الربح لا عن السمعة، وكأنّ القيم التي ميّزت العراقيين قد أُرهقت من كثرة ما أُهملت.
إنّ إصلاح المجتمع لا يبدأ من القوانين ولا من الخطابات، بل من إعادة الاعتبار للشرفاء، أولئك الذين يعملون بصمت ويؤمنون أن الكلمة الصادقة أعظم من أي مكسب. يجب أن تُفتح لهم الأبواب، وأن يُكرَّموا لا لأنهم معنا، بل لأنهم على حق.
كما ينبغي أن نحذر من السفهاء، أولئك الذين يبيعون الموقف ويشترون الولاء، لأنهم وإن صفّقوا اليوم، سيطعنون غدًا، ولأنّ الفساد يبدأ من لحظة نمنحهم فيها الثقة.
العراق لا ينهض بالشعارات ولا بالمجاملات، بل بالضمائر التي تعرف أن الشرف ليس موقفًا مؤقتًا، بل سلوكًا دائمًا.
فلنُعد النظر فيمن نمدح ومن نمنح، فيمن نقدّم ومن نؤخر.
ولنُدرك أنَّ مناصرة الشريف وإن كان خصمًا، أكرم للوطن من مؤازرة سفيهٍ وإن كان صديقًا.