سكان القطاع يطالبون بمستقبلٍ بلا حماس

يارا المصري
في شوارع غزة المدمّرة، بين أنقاض البيوت والمياه الآسنة التي تغمر الأزقة، يتصاعد صوت جديد — صوت التعب، واليأس، والرغبة في التغيير. بات كثير من سكان القطاع اليوم يتحدثون علناً عمّا كان يوماً من المحرّمات: إنهم يريدون مستقبلاً من دون حماس، الحركة التي — كما يقولون — فقدت صلتها بالناس وبمعاناتهم.
بعد شهور طويلة من القتال، حين بدا أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة دولية سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الهدوء وإعادة الإعمار، تبيّن أن حماس لم تلتزم ببنود الاتفاق. فقد عادت إلى نشاطها العسكري، ومنعت دخول فرق الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وأفشلت كل الجهود الرامية إلى استعادة الحياة الطبيعية. وبدلاً من الأمل، عادت الفوضى، والخوف، والعوز.
يقول محمود أبو ناصر، من مخيم الشاطئ:
“ظننا أن الاتفاق سيجلب لنا السلام، لكنّه كان وهماً. قالوا إن المعابر ستُفتح، وإن الكهرباء ستعود، وإن الإعمار سيبدأ. لم يتحقق شيء. أطفالي ينامون من جديد بلا كهرباء، ولا ماء، ولا أمل.”
كثيرون في غزة يرون أن حماس تعمدت تعطيل تنفيذ الاتفاق خشية أن تفقد سيطرتها السياسية والاقتصادية على القطاع. ويقول ناشطون مدنيون إن قيادة الحركة رفضت التعاون مع فرق المراقبة الدولية التي جاءت لمتابعة توزيع المساعدات، وأصرت على أن تمرّ كل شحنة من خلالها. تقول أمينة أبو ريان، وهي أم لخمسة من بيت لاهيا:
“يريدون السيطرة حتى على الفقر. حتى أكياس الطحين لا تصل إلا عبر أيديهم. كل شيء عندهم سياسة وسلطة.”
في الأيام الأخيرة، ظهرت في شوارع غزة ملصقات كتب عليها بخط اليد: “نحن لسنا أعداء — نحن ضحايا.” وبحسب صحفيين محليين، فإنها مبادرات شبابية مستقلة، سرعان ما قمعتها أجهزة الأمن التابعة لحماس. بعض الشبان اعتُقلوا، وآخرون اختفوا، لكن الرسالة وصلت: الناس لم يعودوا يخافون كما في السابق.
التقارير الدولية تؤكد الصورة نفسها. فقد ذكر تقرير صادر عن الأمم المتحدة هذا الأسبوع أن حماس أفشلت عمل بعثة المراقبة الدولية التي كانت تتابع تنفيذ وقف إطلاق النار، ومنعت إيصال المساعدات بشكل مباشر إلى المنظمات الإنسانية. وجاء في التقرير: “واجهت الفرق الإنسانية عراقيل سياسية متعمدة، إذ تعتبر حماس كل نشاط مدني خارج سلطتها تهديداً لهيمنتها.”
في إسرائيل يتابع المسؤولون التطورات عن كثب. ويقول مصدر أمني كبير إن الحركة “فقدت السيطرة على الشارع”. ويضيف:
“حماس اليوم في مأزق: من جهة تريد إظهار إنجاز أمام إسرائيل، ومن جهة أخرى تخشى الغضب الشعبي. النتيجة هي مزيد من القمع الداخلي والمعاناة للمدنيين.”
على الأرض، تبدو مظاهر الانهيار جلية. طوابير طويلة أمام مراكز توزيع الطعام، شبكات الكهرباء والمياه شبه منهارة، والمدارس تعمل بصورة متقطعة. يقول أحد سكان رفح:
“لا يمرّ يوم بلا انقطاع للكهرباء. لا عمل، لا وقود، لا شيء. كل هذا لأنهم اختاروا الحرب مجدداً بدلاً من الإعمار.”
رجال الأعمال في غزة بدورهم يعبّرون عن استيائهم. فحماس تفرض ضرائب جديدة على كل سلعة تدخل القطاع، حتى على السلع الإغاثية. يقول تاجر من سوق الزاوية:
“يأخذون المال باسم المقاومة، لكنهم يقاومون الحياة نفسها. من يتحدث يختفي.”
خلال الأسبوع الماضي، وردت أنباء عن تعرض بعض عائلات الأسرى السابقين، الذين أُفرج عنهم في صفقة التبادل الأخيرة، لتهديدات بعد أن انتقدوا قيادة حماس علناً. إحدى العائلات اضطرت إلى مغادرة منزلها. تقول قريبة أحد المفرج عنهم:
“نحن فرحنا بعودتهم، لكن لا يمكن أن تقول كلمة ضد الحكومة. صار النقد جريمة.”
حتى داخل الساحة الفلسطينية نفسها، بدأت فصائل أخرى، مثل حركة الجهاد الإسلامي، تتهم حماس بتقويض المقاومة من الداخل وبالانفراد بالسلطة. وتشير مصادر سياسية إلى أن الخلافات بين الفصائل تتصاعد، ما يزيد من حالة الفوضى السياسية والأمنية في القطاع.
لكنّ الإحباط الشعبي هو الأوضح. بعد سنوات من الحروب والوعود الفارغة، لم يعد الناس يثقون بأن حماس قادرة على تأمين مستقبل أفضل. تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي شعارات جديدة: “نريد حكومة مدنية، لا مليشيا. نريد قيادة تبني، لا تهدم.”
حتى بين العائلات البسيطة التي تحاول النجاة يوماً بعد يوم، تسمع النداء نفسه: “كفى حروباً.” تقول شابة تبلغ 19 عاماً من حي تل الهوى:
“نشأت على صوت الانفجارات فقط. لم أعرف حياة طبيعية قط. لو التزموا بالاتفاق مع إسرائيل، ربما كنا بدأنا من جديد. لكنهم دمّروا كل شيء.”
المجتمع الدولي يعرب عن قلق متزايد. فبحسب منظمات الإغاثة، الأزمة الإنسانية في غزة هي الأسوأ منذ أكثر من عقدين، لكن من دون تغيير سياسي فعلي، ستبقى جهود الإعمار عديمة الجدوى. وقال دبلوماسي غربي:
“لا يمكن إعادة بناء غزة بينما تواصل حماس حكمها بهذه الطريقة. العالم يريد أن يساعد، لكن ليس طالما أن كل مساعدة تتحوّل إلى أداة للهيمنة السياسية.”
وفي حين تراقب إسرائيل ومصر ودول أخرى في المنطقة الوضع بترقّب، يأمل البعض أن تفرز هذه الأزمة قيادة فلسطينية جديدة — قيادة مدنية، مسؤولة، تضع حياة الناس فوق المصالح التنظيمية. لكن إلى أن يحدث ذلك، تبقى غزة غارقة في واقع من البؤس والانتظار.
في نهاية الحديث، يلخّص سامر زعبي، وهو طالب جامعي في غزة، شعور كثيرين بقوله:
“نريد ماءً، نريد عملاً، نريد مستقبلاً. إن كانت حماس غير قادرة على أن تمنحنا ذلك — فلتتركنا نعيش بدونها.”
وفي شوارع القطاع يتردّد اليوم شعارٌ جديد لم يعد الناس يهمسون به، بل يقولونه علناً وبصوت عالٍ: “مستقبل بلا حماس.”.