مقالات

شاركنا التحدي : معا يوم بلا شاشات

كتبت د. هبة الله السمري

عميدة كلية الاعلام و اللغات التطبيقية بجامعة النهضة

استاذ الإعلام بجامعة القاهرة

هل يمكن أن نتخيل يومًا كاملًا بلا فيسبوك، بلا تيك توك، بلا سناب شات، بلا إعجابات ولا مشاركات ولا إشعارات تلاحقنا كل دقيقة؟ هل نستطيع أن نبتعد يومًا عن السباق المحموم وراء “اللايك” و”الشير” ونستعيد حياتنا كما هي، ببساطتها ودفئها وصدقها؟ هذا هو التحدي الذي تطرحه مبادرة “معًا يوم بلا شاشات”، دعوة لأن نمنح أنفسنا استراحة قصيرة من العالم الافتراضي، لنعود إلى التواصل الحقيقي مع الأسرة والأصدقاء، ونستثمر وقتنا في أنشطة واقعية تعيد إلينا طاقة الحياة بعيدًا عن ضجيج التطبيقات والشاشات.

المبادرة هي نشاط وجهد جماعي لعدد من أساتذة الإعلام والخبراء الإعلاميين تحت قيادة الأستاذة الدكتورة منى الحديدي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وعضو المجلس الأعلى للثقافة. وتستند إلى جهود توعوية واسعة تشمل المدارس والجامعات، إضافة إلى برنامج متكامل من الندوات والأنشطة الترويجية الترفيهية والثقافية والرياضية والفنية، بما يعيد أبناءنا إلى أجواء اللقاءات المباشرة والأنشطة الفكرية والإبداعية المتنوعة. الهدف أن نعيد إحياء عادات مثل قراءة الكتب، ممارسة الفنون والموسيقى، واستثمار الوقت في أنشطة مفيدة تردنا مرة أخرى إلى العالم الواقعي بجمالياته وطاقاته الحقيقية.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل الاجتماعي يترك أثرًا مباشرًا على الصحة النفسية للشباب، فيزيد من معدلات القلق والاكتئاب، ويقلل من التركيز وجودة النوم. كما أن الأطفال والمراهقين يقضون ساعات طويلة مع تلك المواقع والمنصات على حساب الرياضة والهوايات وحتى الجلسات العائلية. من هنا تأتي أهمية أن يكون هناك يوم في السنة نتفق فيه جميعًا على ترك هذه المواقع جانبًا، والعودة إلى ممارسة أنشطة حياتية طبيعية مثل القراءة والتنزه واللعب، أو مجرد محادثة وجهاً لوجه.

هذه الفكرة ليست جديدة على العالم، فقد سبقتنا دول عدة أطلقت مبادرات مشابهة. ففي الولايات المتحدة وكندا ظهرت مبادرة “Disconnect to Connect” التي تشجع الأسر والأفراد على إغلاق الأجهزة ليوم واحد واستثمار الوقت في التواصل الحقيقي. وفي فرنسا خصصت بعض المدارس أيامًا بلا هواتف محمولة لإعادة الانتباه إلى أهمية التفاعل المباشر بين الطلاب. أما في الهند، فقد أطلقت منظمات أهلية حملات تحت عنوان “Digital Detox Day” للحد من الإدمان الرقمي وتعزيز الوعي بخطورة الاستخدام المفرط للشاشات.

وفي السويد، برزت تجربة رائدة عبر ما يُعرف بـ “Screen-Free Week” التي تبنتها بعض المؤسسات التعليمية والثقافية، حيث يتم تنظيم أنشطة بديلة للأطفال والعائلات من قراءة ورياضة وفنون، بهدف تعزيز قيمة الوقت الحقيقي بعيدًا عن الأجهزة. هذه التجارب مجتمعة أثبتت أن تخصيص يوم سنوي بلا شاشات ليس مجرد رمز، بل خطوة عملية لتذكير المجتمعات بضرورة التوازن بين العالم الرقمي والواقعي.

المبادرة تستهدف أيضًا الأسرة، التي يقع على عاتقها دور كبير في تشجيع أبنائها على المشاركة، ليس فقط عبر التوجيه، وإنما عبر القدوة المباشرة. فوجود الأهل في هذه المبادرة جنبًا إلى جنب مع أبنائهم يمنحها ثقلًا أكبر، ويجعلها تجربة أسرية ممتدة الأثر.

إن “معًا يوم بلا شاشات” لا يعني الانقطاع عن العالم، بل هو دعوة لاكتشافه بشكل أعمق، أن نرى تفاصيل الحياة بعينين مفتوحتين لا بعدسة كاميرا، وأن نعيش اللحظة بدلًا من انتظار مشاركتها. فالتقنية ووسائل التواصل باقية بلا شك، لكن وجود استراحة سنوية منها قد يكون بمثابة صمام أمان نفسي وصحي، يذكرنا دومًا أن السعادة لا تُقاس بعدد المتابعين، بل بجودة العلاقات الإنسانية.

وهنا يأتي دورنا جميعًا: شبابًا وأطفالًا وأسرًا. لنجعل من مبادرة “معًا يوم بلا شاشات” موعدًا سنويًا نلتزم به ونعيشه معًا. دعونا نترك مواقع التواصل الاجتماعي ليوم واحد فقط، لنضيء قلوبنا بعلاقات أصدق، ونعيد اكتشاف متعة الحياة بعيدًا عن العالم الافتراضي. فلتكن دعوتنا صريحة: شاركونا هذه المبادرة، وكونوا جزءًا من تجربة جماعية تثبت أن الواقع أجمل دائمًا من الشاشة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى