غادة محفوظ تكتب : البيدوفيليا خطر يهدد أطفالنا

أكتب هذا المقال من منطلق المسؤولية المجتمعية، لا بدافع الهجوم ولا من موقع الخصومة مع أحد، بل من موقع القلق المشروع على أطفالنا، وعلى مؤسسة التعليم التي تمثل خط الدفاع الأول عن وعيهم وأمانهم. الجدل الذي أُثير مؤخرًا بعد تصريحات المحامية والحقوقية نهاد أبو القمصان تجاه وزير التربية والتعليم لا يجب أن يُختزل في شخص الوزير أو في ردود أفعال غاضبة، بل يجب أن يكون مدخلًا جادًا لمناقشة أزمة أعمق وأكثر خطورة، وهي غياب منظومة حماية حقيقية داخل المدارس، ما سمح بتفاقم حوادث التحرش الجنسي بالأطفال، وتكرار مشاهد الاعتداء على المعلمين، في مناخ بات طاردًا للتعليم وآمنًا للجريمة.
ما رصدته مواقع التواصل الاجتماعي خلال المرحلة الحالية لا يمكن التعامل معه باعتباره وقائع فردية معزولة، بل هو نمط متكرر لحالات متشابهة، تبدأ باعتداء على طفل أو شبهة تحرش داخل مدرسة، وتنتهي غالبًا بالصمت، أو بالحلول العرفية، أو بنقل المشكلة من مكان إلى آخر دون مواجهة حقيقية. وفي المقابل، نشهد اعتداءات متكررة من بعض أولياء الأمور على المعلمين، ما أفقد المعلم شعوره بالأمان، وجعله عاجزًا عن أداء دوره التربوي، بل خائفًا من ممارسة سلطته التعليمية. نحن أمام بيئة مختلة لا تحمي الطفل، ولا تحترم المعلم، ولا تصون المدرسة.
الخطر الأكبر أن المجتمع لا يزال يفتقر إلى الفهم الدقيق لمفهوم البيدوفيليا والتحرش بالأطفال. فالبيدوفيليا ليست «نزوة» ولا «سلوكًا عابرًا»، بل اضطراب نفسي وسلوكي خطير قائم على استغلال الأطفال جنسيًا، وغالبًا ما يتخفى صاحبه خلف أقنعة اجتماعية زائفة من التدين أو الطيبة أو السلطة. التحرش بالأطفال جريمة مكتملة الأركان، لكن الأخطر منها هو ثقافة الإنكار، واتهام الطفل، وتخويفه من الحديث، وكأن المجتمع يعاقب الضحية مرتين: مرة بالفعل، ومرة بالصمت.
من واقع مشاركتي في مشروع تخرج لطلبة كلية الإعلام، والذي تناول كيفية حماية الأبناء والتعامل مع قضايا التحرش، تبيّن بوضوح أن الحل لا يمكن أن يكون أمنيًا فقط، ولا إعلاميًا فقط، بل هو مسار متكامل يبدأ بالوعي، ويمر بالتربية، وينتهي بالتشريع. تناولنا حينها أهمية تأهيل المتحرشين نفسيًا وتربويًا، لأن العقاب وحده دون علاج لا يمنع تكرار الجريمة. ومن هنا أرى أن الوقاية الحقيقية يجب أن تبدأ مبكرًا، من خلال الكشف النفسي على المقبلين على الزواج، والاهتمام بالصحة النفسية داخل الأسرة، وليس الاكتفاء بردود الفعل بعد وقوع الكارثة.
رصد الحالات المتشابهة وتحليلها بصورة علمية أمر بالغ الأهمية، ليس بهدف التشهير، بل لخلق وعي مجتمعي ورادع حقيقي لكل من تسول له نفسه الاقتراب من طفل. العدالة المترددة تشجع الجريمة، أما العدالة الواضحة، المصحوبة برسائل توعوية، فتصنع حاجزًا نفسيًا وأخلاقيًا أمام المعتدي المحتمل.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل هذه القضية عن التوجه العام للدولة، فالقيادة السياسية المصرية وضعت مفهوم الحماية الاجتماعية والأمن الاجتماعي للأسرة المصرية في صدارة أولوياتها، وأكدت مرارًا أن بناء الإنسان هو أساس الجمهورية الجديدة. وهذه الرؤية لا يمكن أن تتحقق دون ضمان سلامة أبنائنا نفسيًا وجسديًا داخل مؤسسات التعليم وقبلها داخل الأسرة. فالأمن الاجتماعي لا يُقاس فقط بالدعم الاقتصادي أو شبكات الحماية المادية، بل يبدأ من شعور الطفل بالأمان، ومن حقه في بيئة تعليمية تحميه لا تهدده، وتحتويه لا تكسره. فلا حديث عن أسرة مستقرة أو مجتمع آمن في ظل طفل خائف أو منتهك أو صامت.
تلعب القوى الناعمة دورًا محوريًا في معالجة هذا الملف، ولا يقل تأثيرها عن دور القانون. أعمال درامية مثل مسلسل «لام شمسية» نجحت في فتح نقاش واسع داخل كل بيت مصري، لأنها عالجت القضية بوعي واحترام وعمق، بعيدًا عن الابتذال أو الإثارة. نحن بحاجة إلى مزيد من هذه الأعمال، وإلى برامج إعلامية جادة تتناول الظاهرة بمنهج أكاديمي، مع وضع آليات واضحة لاختيار الضيوف، بعيدًا عن منطق التريند أو الاستعراض.
وفي الوقت نفسه، لا بد من سن قوانين أكثر صرامة، وحوكمة الموقف أمنيًا داخل المدارس، بحيث تصبح المدرسة مساحة آمنة حقيقية. نحتاج إلى إجراءات حماية واضحة، وأخصائيين نفسيين مؤهلين، وآليات إبلاغ تحمي الطفل ولا تفضحه. كما أدعو إلى تشكيل لجان حوار مجتمعي فعّالة داخل كل مديرية تربية وتعليم، تضم متخصصين وممثلين عن المجتمع المدني وأولياء الأمور، بعيدًا عن النمطية والشكليات، لتكون مساحة استماع وحل لا مجرد صورة رسمية.
كما يجب تفعيل دور مجالس الأمناء لتكون ذراعًا مساعدة حقيقية في الحفاظ على سلامة أبنائنا، وبناء جسور الثقة بين المدرسة والأسرة. وأؤكد مجددًا على دعوتي لتعميم المدارس السلوكية في مصر، لأنها ليست رفاهية تربوية، بل ضرورة وطنية، فبناء السلوك السوي هو خط الدفاع الأول ضد الانحراف والجريمة.
وأخيرًا، رسالتي للأمهات والآباء: لا تُعنّفوا أبناءكم، لا تُصادروا مشاعرهم، ولا تُخيفوهم من الحديث. الطفل الذي يشعر بالأمان هو طفل قادر على التعبير، والطفل الذي يتكلم هو طفل يمكن حمايته. استمعوا أكثر مما تحاكمون، وصدقوا أبناءكم قبل أن تصدقوا المجتمع



