مذكرات امرأة مفتش عنها: (تجربة السرداب – الجزء ١)

كتبت د : ليلي الهمامي
الظلام يلفني، والوحدة تحاصرني. تتدافع في ذهني أصوات ومشاهد ومواقف… أحاول أن أجهد ذاكرتي لاستحضار حطام من صور ومشاعر انتابتني خلال محنتي في مخبأ في العالم وخارج العالم… أفكار ومشاعر، صور في معيش وجودي في السرداب…
في هذا الوجود، في هذه الحياة، هنالك سراديب، هنالك دهاليز، هنالك أقبية مظلمة قد نكون في العالم ونحن خارجه. أفكار تتدافع في ذهني تعيدني إلى سرديات المنفى والسجن كما عاشها دستويفسكي… عشتها نعم، وأنا في وضع وسيط بين الحياة والموت، بين من يتنفس دون أن يتكلم ومن يعي وجوده دون أن يوجد بالفعل. الوحدة هي أن تكون بين ظفرين في العالم، أن تكون محاصرًا بالظلام والصمت.
يقول دستويفسكي إن الإنسان يعتاد على كل شيء… هذا هو الشر الذي فينا بالفعل. الإنسان يعتاد على كل شيء، يعتاد على العبودية، يعتاد على السجن، يعتاد على الصمت، يعتاد على الموت وهو حي… تجربة السرداب أو القبو كما أسميها هي قريبة من مشهدية من يفقد القدرة على الحرية. الحرية في أشكالها الأولية البدائية الأساسية، تلك التي تمكنك من تغيير المكان، تلك التي تمكنك من التجول في الطرقات، تلك التي تمكنك من الحديث إلى الناس، تلك التي تمكنك من التنقل، من تغيير الموقع، من التحرك في الجغرافيا دون قيد، تلك التي تمكنك من أن تتواصل مع الناس…
الحريّة في الأشياء البدائية البسيطة التي تخص جسدك، الجسد في الفضاء أي في المكان… تجربة أنك تفقد هذه الحرية وأنت متهم ظلماً بأمر لم ترتكبه، بل إنك تدرك قمة المأساة عندما تجهل حتى أساس ما أنت به متهم… أمر غريب أن تجد نفسك ملاحقًا وفي حقك عشرات مناشير تفتيش… أن تكون ملاحقا في كل مكان، في كل ظرف، في كل وقت وتوقيت… أنت محاط بأناس من الذين يمكن أن يكونوا جواسيس وعيون… أن تتأقلم بالفعل… أن تتأقلم مع هذا الظرف… أي أن تتحول أنت إلى سجن ذاتك، أن تسجن ذاتك!!!
أن تضع نفسك في محيط ضيق، أن تمارس على نفسك أقصى درجات التعذيب، أي تلك الصرامة وذلك التقشف في الأكل والنوم… حتى الضوء تحترز من أن يتسرب من ستائر شباك جدران مكانك من شقوق قبوك… أمر غريب أن تقضي أيامًا وأيامًا دون أن تتحدث، دون أن تتكلم، دون أن تستعمل الهاتف لأن في الهاتف ثمة أكثر من كارثة يمكن أن تصلك… الهاتف هو ذلك الجاسوس، تلك العين التي يمكن أن تقودهم إليك…
تحجم عن كل كلام، تحدث نفسك،،، تحدث نفسك وأنت على يقين من أن ذلك الحديث لن يشبع رغبتك في التواصل. أنك تبرر ثم تعيد تكرار نفس الأفكار، أفكار من الماضي تدور في ذهنك، تمثلات وذكريات وأنت في حالة من الخوف، خوف من قادم مجهول ومرعب، من قادم بائس يتهددك يلغي كل ما لديك من أحلام، يلغي كل ما لديك من طموحات…
كأن حياتك لم تكن،،، كأن شيئًا لم يكن، كأنك لم تكن في يوم من الأيام، كأنك لم توجد، كأنك لم تدرس، كأنك لم تطالع ولو فقرة في كتاب، ولو جملة في فقرة… ذاكرتك تتمرد… ذاكرتك ترفض استحضار الذكريات السعيدة والجميلة فلا تذكر إلا الخيبات ولا تذكر إلا الآلام التي عشتها في طفولتك ومراهقتك ونضجك… الأشياء التي تعمق الألم والتي تشعرك بأن كل ما كابدته من مشاعر الشقاء هي فقط مدخل لما هو أشنع وأشد.
(الجزء ٢ في المنشور التالي)
د. ليلى الهمامي.



