مقالات

هل أربعينية الحسين قضية أم فلكلور (٢)
( الشعب الذي يبحث عنه الفلاسفة)



بقلم المهندس رسول العذاري

إحدى قريباتي التي تعيش في لندن منذ خمسين عامًا جاءت لزيارة العراق، وقررت أن ترى مشهد الأربعينية لأول مرة. كنا على جسر النجف في الديوانية، والجموع المليونية تزحف نحو كربلاء، بحر من البشر يمشي على الأقدام بلا انقطاع. سألتني بدهشة:
– لم أرَ في مدينتكم مطاعم وفنادق كافية، فكيف سيتدبر هؤلاء أمرهم؟

ابتسمت وقلت لها: سأجيبك عند المغرب.
وعند المغيب، عدنا إلى نفس المكان، لكن المشهد تغير تمامًا؛ السيارات مصطفة على جانبي الطريق، وأصحابها ينادون الزائرين بحرارة: “تفضلوا… البيت بيتكم”، بعضهم يتوسل أن يستضيفهم، وآخرون يشعرون بالأسف لأنهم لم يجدوا ضيوفًا ليأخذوهم إلى بيوتهم، ليطعمونهم ويسهروا على راحتهم.

قريبتي وقفت مذهولة، وقالت:
– هذا الفعل، لو كان عندنا في أوروبا، لخصصنا له مئات من علماء النفس والاجتماع والاقتصاد كي ندرسه، ولبحثنا عن طريقة لجعل هذا التكافل والتكاتف الاجتماعي يدوم، لأنه من النادر أن يتفق مجتمع كامل على قيم سامية بهذا الشكل، ويتزاحم الناس على فعل الخير.

هذا هو الشعب الذي يبحث عنه الفلاسفة في كتبهم عن “الدولة المثالية”. نراه حيًا وواقعيًا في أيام الأربعينية، حيث تختفي الفوارق الطبقية، وتذوب الحواجز الاجتماعية، ويتحول كل فرد إلى خادم لأخيه. لكن السؤال الكبير: لماذا نحتفظ بهذه الروح لأيام معدودة، ثم نغلق عليها الباب حتى الموسم القادم؟

إذا استطعنا أن نعيش هذا الإحساس الإنساني العظيم أربعين يومًا، فلماذا لا نحوله إلى أسلوب حياة؟ لماذا لا يكون هذا التضامن هو القاعدة، لا الاستثناء؟ حينها فقط، ستصبح الأربعينية مدرسة دائمة، لا ذكرى موسمية، وسيكون الحسين حاضرًا في سلوكنا طوال العام، لا في مواسم محددة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى