مقالات

الكوميديا السوداء للديمقراطية — بين الوهم والمقاطعة(١)

بقلم/المهندس رسول العذاري

منذ لحظة سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى اليوم، ارتبطت الديمقراطية في المخيال الشعبي العراقي بمفردة واحدة: الانتخابات. لم نمارس منها شيئًا سوى
صناديقها، أما روح الديمقراطية الحقيقية، بما تحمله من
تداول سلمي للسلطة، وفصل بين السلطات، وحقوق مدنية، ومحاسبة، فلم نعش منها سوى العنوان.
تُجرى الانتخابات في العراق كل بضع سنوات وسط ضجيج إعالمي وشعارات براقة، ولكن كل مراقب نزيه
يدرك أنها أبعد ما تكون عن النقاء. فلا يوجد قانون رصين لأحزاب، وغالبية ما يُطلق عليها اسم “الاحزاب
الكبرى” تمتلك أجنحة مسلحة، تتفوق أحيانًا من حيث القوة والنفوذ على الجيش والشرطة الرسميين. هذه
الفصائل لا تُخفي سلاحها، بل تُستخدم في فرض النفوذ السياسي، والضغط على الناخبين، وفي بعض الاحيان
في تصفية الخصوم.
لم يقف العبث عند هذا الحد، بل إن المسؤولين أنفسهم، وزراء ونواب ومدراء عامون، يعيدون ترشيح أنفسهم
وهم في السلطة، مستخدمين مقدرات الدولة: سياراتها، مواردها المالية، إعالمها، وحتى موظفيها، في حملاتهم
الانتخابية. يُضاف إلى هذا “الكنز الاسود”، أي الاموال المسروقة طيلة سنوات الحكم، والتي يُدخر بعضها
خصيصا لتمويل الحملات الانتخابية. فكيف لمتنافس بسيط، لا يملك سوى قلمه أو برنامجه، أن ينافس هذا
الطوفان المالي والدعائي؟
وقبيل كل انتخابات، يطل علينا أحد قادة الاحزاب – أو كما يصفونهم بـ”الصقور” – ليعلن بكل ثقة: “نبدأ
اليوم من خط الشروع لبناء العراق”. يتكرر هذا التصريح منذ أكثر من عشرين عاما، ما يدفع للتساؤل: أ كان
هذا القائد تائها يبحث عن خط الشروع طوال هذه العقود؟ أم أنه يعلم تماما أنه لا خط ُشروع، بل خطف شرعية
وانتظار غنيمة؟
أما عن القوانين الانتخابية، فهي نكتة أخرى. فكل دورة تُفّصل قوانينها على مقاس القوى المتحاصصة: مرة
قائمة مغلقة تضمن السيطرة التامة، ومرة أخرى نصف مفتوحة لذر الرماد في العيون، ثم مفتوحة لتخفيف
الضغط الشعبي، ثم يُعاد إدخال قانون سانت ليغو بمعاملات هجينة لا تُطبق في أي ديمقراطية محترمة. كل ذلك
تحت شعار “تحسين التمثيل الشعبي”، بينما الحقيقة هي ضمان إعادة إنتاج السلطة نفسها.
ومن الطريف المبكي أن أحد أبرز القادة السياسيين، يخرج قبل كل انتخابات ليطالب بـ”أغلبية سياسية”، بحجة
أنه لا يستطيع تنفيذ برامجه لان خصومه يعطلونه. لكنه، ما أن يقترب خصم سياسي من تشكيل أغلبية حقيقية،
حتى يعود نفس القائد للدعوة إلى حكومة “توافقية”، أي إعادة تدوير الجميع تحت عنوان “الشراكة الوطنية”. إنها
فعلا كوميديا

… من كتابي المقبل شخابيط شويب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى