دروس من القضية الحسينية (4)

بقلم المهندس رسول العذاري
كانت قريش تأنف أن تُقاد من شخص لا ينتمي إلى عشيرتها أو لا يأتي من بطنٍ معين من بطونها، إذ كان الطبع العربي في جزيرة العرب قبل الإسلام قائماً على العصبية القبلية، حيث كل قبيلة ترى نفسها أحق بالحكم والسيادة، ولا تقبل أن تذعن لسلطة خارجية أو حتى داخلية إن لم تكن من صلبها. هذه الروح المتعالية، القائمة على التفاضل بالأنساب والمكانة الاجتماعية، هي التي جعلت العرب يتصارعون طويلًا دون أن يتوحدوا، حتى جاء الإسلام.
وقد جاءت رسالة الإسلام لتكسر هذه القاعدة، فرفعت شعارًا ثوريًا صريحًا: “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”. لكنها لم تُلغِ تلك العصبية دفعة واحدة، بل واجهت مقاومة خفية ومستترة من شيوخ القبائل وعلية القوم، ممن رأوا في المساواة تهديدًا لمكانتهم المتوارثة.
ولعل قول النبي الأكرم: “هلكت الأمم قبلكم، كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. فوالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”، يعكس حجم المعاناة التي واجهتها الدعوة الإسلامية في نسف هذه المعايير الطبقية. فقد كان كثير ممن يُطلق عليهم “الشرفاء” يرفضون أن يُعاملوا كسائر الناس، وظلوا متمسكين بموروثهم من الطغيان والتعالي والتمييز الطبقي، الذي وجد سبيله للعودة بمجرد رحيل النبي صلى الله عليه وآله.
ومع مرور الوقت، خصوصًا في العهد الأموي، انكشفت هذه العصبيات بشكل فجّ، فصار الحكم إرثًا عائليًا، وتحوّلت مقدّرات المسلمين إلى ملكٍ خاص يُوزَّع على أساس الولاء للسلطة، لا على أساس العدل والكفاءة. واستُدرج “علية القوم” بالمال والمناصب، فخضعت الدولة الإسلامية لمنطق النسب والبطانة، بدلًا من منطق التقوى والإصلاح. فتمزقت الأمة وانهارت القيم التي بُني عليها مشروع النبوة.
في هذا الظرف الحرج، كانت الأمة بحاجة إلى رجل يعيد الأمور إلى نصابها، رجل يملك وعي محمد وجرأته، فكان الحسين هو ذاك الامتداد الطبيعي للرسالة، لكنه لم يأتِ بسيف الفتح هذه المرة، بل بتضحية الدم في كربلاء، تضحية تتناسب مع حجم الانحراف الذي أصاب الأمة.
كان الحسين على موعد مع التاريخ، لا من أجل سلطة أو حكم، بل من أجل إحياء روح الإسلام الذي شوهه الطغاة، وإعادة بثّ رسالة النبي في وجه من خانوها. فوقف، وضحّى، واستُشهد، ليبقى صوته شاهدًا على أن السكوت عن الظلم خيانة، وأن التقوى لا تُورث، بل تُؤكد بالفعل، مهما كلّف الثمن.
وهكذا، كان الحسين هو “الرجل” الذي انتظرته الأمة، وكان في الموعد.