التراث الثقافي غير المادي في العراق بين التحديات والتهديدات

.
بقلم / إنعام العطيوي
مركز حماية وصون التراث الثقافي
وزارة الثقافة العراقية
يمتلك العراق كنزاً تُراثياً غير مادياً يَحمل ثقافة سبع حضارات لبلاد ما بين الرافدين التي تمثلت بالحضارة السومرية وهي المؤسس الاول للمُدن البشرية وللكتابة المسمارية التي عَلمت البشرية القراءة والكتابة وليومِنا هذا تُستخدم الكتابة كأداة لتناقل الحضارات والثقافات فتمكنت كل الحضارات من بَعدِها استخدام اسلوب الكتابة لنقل حضاراتها، كما تركت الحضارة السومرية مُدنها شاخصة كتُراثٍ ماديٍ مثل مدينة اور واوروك، والحضارة الاكدية والحضارة الاشورية وكل الحضارات تركت معالم اثارية وتراثية فضلاً عن الحضارة البابلية والتي تركت معلماً شاخصة في التطور العلمي والفني والادارة البشرية حتى عُدت اول الحضارات التي سَنت القانون واشتهرت “مسلت حمورابي” من ابرز مَعالِمها الاثرية وايضاً اثار بابل التي مازالت ليومِنا هذا يحقق وجودها مفخرة تاريخية لأعظم حضارة عراقية أسست التنظيم والتخطيط وادارة التنوع وسن قانون للحياة البشرية العادلة وحفظ الموروث الثقافي والعلمي ونقلهُ للأجيال، فضلاً عن (مملكة الحضر والحيرة والحكم العباسي) الذين اشتهروا بالعصور الذهبية للفن والعلم والازدهار العمراني والعلمي والادبي.
وكل هذا الارث حمل ممارسات وتقاليد وفنون شعبية للبلاد جُسدت كذاكرة حية للشعب العراقي تناقلت شفاهياً وممارسياً بين الاجيال المتعاقبة عبر التاريخ وكل هذهِ الممارسات المتناقلة تسمى بالتراث غير المادي والتي تشمل (المقامات العراقية والصناعات اليدوية من النخيل والبردي والعادات والتقاليد والافكار والقصص والامثال والاغاني والاهازيج والانتماءات سواء كانت دينية ام عرقية كلها تُعد تراث للهوية العراقية وجذورِها المُمّتدة عبر الاف السنين).
كل ما تم التطرق لهُ في مقدمة الحديث يتعرض لجملة من تحديات صون التراث الثقافي غير المادي وتهديدات اندثارهِ الثقافي مما يؤدي الى تهديد التنوع الثقافي في البلاد وطمس هويتهِ الثقافية وتأثرهِ بالأزمات الامنية والسياسية والاقتصادية والثقافية وعالم الحداثة والعولمة والغزو الثقافي الوافد والمهاجر فتغُير نمط الحياة اليوم بما يتماشى مع حداثة التطور العلماني للحياة السريعة حال دون نقل هذا التراث من جيل الاباء الناقل للتراث الثقافي غير المادي لجيل الحداثة المرتبط بالعولمة والأتمتة والاجهزة الالكترونية والاعلام الرقمي السريع وامتزاج الحياة بعادات وثقافات وافدة ومهاجرة مما شكل تحدي جديد لانتقال التراث غير المادي بين الأجيال فمثلاً مهنة الحياكة اليدوية للصوف والبردي والنخيل وحياكة السجاد اليدوية والفخار لم تعُد من المهن المطلوبة في الحياة العصرية.
لذى باتت عُرضة للاندثار ناهيك عن المهددات للازمات الامنية والسياسية التي تعرضت لها البلاد من صراعات وحروب وتهجير قسري ونزوح كل هذهِ تودي الى اكتساب سلوكيات ولغات وعادات جديدة تتماشى والسعي للبقاء على قيد الحياة دون الاهتمام بالثقافة والفن والتقاليد والمعارف يضاف لها الثورة الاعلامية المعاصرة الالكترونية والتي باتت تروج عبر مواقِعها المدعومة ثقافات لحضارات اوربية او غربية او اسيوية وانماطاً لسلوك حياة مغايرة للبيئة العراقية لا تتماشى وحضارة العراق وتقاليدهِ وعاداتهِ وقيمهِ وموروثهِ فقل تناقل الامثال والحكايات والقصص والاغاني والاهازيج واللهجات واللغات العراقية وباتت الامثل الوافدة والحكايات والرسوم الغربية والاوربية والصينية والكورية تغزو ثقافة الاجيال الشابة ناهيك في ضوضاء الانشغال بالملفات السياسية والانتخابية وتناسي الملفات الثقافية في الاوساط المحلية.
ورغم كل هذهِ التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية فقد انضم العراق لاتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي اسهم في توثيق وتسجيل العديد من الممارسات الثقافية التراثية للعراق كان منها (نخيل التمر، وبيت القصب، والنقش على المعادن، والة العود، وعيد نوروز) ومع ذلك فأن هذه الجهود المنجزة في اليونسكو لم تلاقي صدى اعلامي واهتمام تعليمي ومهرجانات توعوية وتثقيفية في داخل العراق فصون التراث الثقافي غير المادي يتطلب وعياً مجتمعياً ممنهجاً عبر الجامعات والمدارس والمؤسسات التربوية والثقافية والتعليمية ومشاركة المؤسسات غير الحكومية في نشر الوعي والثقافة العراقية واشراك الشباب بهذهِ البرامج التي تُعد هي اولى البرامج لامتصاص العنف المجتمعي وترسيخ الترابط والتواد بين الافراد والجماعات والمجتمعات، فضلاً عن كونها تُعد الوسيلة الامثل للتناقل الجيلي وردم الفجوة الجيلية ارتكازاً على نظرية الاجيال في علم الاجتماع.
ولان التراث الثقافي غير المادي هو ليس فقط عادات وسلوكيات بل هو هوية بلد وحضارة ٱمة وربط الماضي بالحاضر وتخطيط للمستقبل وحفاظ على الأمن المُجتمعيَ وترسيخ الاحتفاظ بخصوصية الهوية الوطنية العراقية سواء للبلد عموماً او للمجموعات والجماعات والبيئات خصوصاً ولأجل ضمان بقاء الاجيال القادمة على تواصل مع جذورِها العميقة المُمتدة عبر الاف السنين لحضاراتِها في بلاد الرافدين عَمدت وزارة الثقافة والسياحة والاثار العراقية لإستحداث قسم (حماية وصون التراث الثقافي) ليكون مقره قصر الرئيس العراقي الراحل “رشيد عالي الكيلاني” الكائن في الأعظمية ليحمل في طياتهِ مركزاً يعمل بصمت دون ضجيج لصون التراث الثقافي غير المادي وبجهودٍ حثيثة مواجهاً كافة الصعوبات والتحديات لإعادة تأهيل المبنى عبر دراساتٍ وابحاثٍ وتقاريرٍ علمية وندواتٍ ومحاضراتٍ استقطب فيها طاقاتِ علمية شابة عملت على اضافة عناصر تراثية اخرى مشتركة مع دول اخرى الى قائمة اليونسكو وما زال العمل قائم على ملفات وطنية على مستوى اقليمي ودولي ويسعى العراق عبر هذا المركز الى توثيق عدد كبير من العناصر التراثية في الاشهر المقبلة من العام الجاري لعام ٢٠٢٥ والعام المقبل ٢٠٢٦، ولا يعمل المركز على المستوى الوطني فقط في تسجيل ملفاتهِ على قائمة التمثيل التراثي الثقافي غير المادي في اليونسكو وانما على المستوى الاقليمي والعالمي من اجل حمايتها من الاندثار وصونها والعمل على اجراء برامج صون العناصر التراثية وتوثيقها وحمايتها من الاندثار والتثقيف عنها في الاوساط الثقافية والاعلامية وبتالي تصب نتاجات هذا المركز على تعزيز أواصر الاخوة التي تربطهُ بالدول العربية،
وهذا ما يُعكس ايجاباً على موقف العراق من حماية التراث العربي المشترك، اذ توجد العديد من عناصر التراث الثقافي غير المادي المشتركة مع الدول العربية التي اسهمت في تعزيز العلاقات الدولية والعربية للعراق في منطقة الشرق الاوسط اذ تُعد انجازات هذا المركز على المستوى الاقليمي والعربي والعالمي.
من جانبٍ اخر تم اختيار هذا القصر من قبل وزارة الثقافة ليكون مركزاً لانطلاق حماية وصون التراث الثقافي غير المادي وذلك لخصوصية هذا المبنى لدى العراقيين ولذاكرتهِ العبقة ولموقعهِ البيئي الموائم وافكار واحتياجات الباحثين للعمل البحثي والكتابة فأساسيات البحث العلمي للباحث هو بيئة علمية مؤاتية لاستنباط الافكار والابداع والتوثيق والتدبير وبعيدة عن الضغط الاداري والنفسي والضوضاء والتوتر وهذهِ اول ميزة ركزت عليها وزارة الثقافة لتحقيقِها في هذا المركز املين أن تتظافر جميع الجهود الحكومية وغير الحكومية لدعم هذا المركز البسيط بممتلكاتهِ والغني بمنجزاته.