مقالات

التعايش مع الصابئة المندائية في العمارة ذكريات طفولة من زمن الفطرة


بقلم : سجى اللامي

من مدينة العمارة تحمل ذاكرة الطفولة الكثير من الصور التي تجسد قيم التعايش الإنساني، حيث شكل الصابئة المندائيون جزءاً أصيلاً من نسيج المجتمع. في منطقة االمحمودية التي ولدت بها لم يكن يفصل بيني وبين منطقة السرية سوى شارع واحد اسمه ” شارع بغداد “غير أن هذا الشارع لم يمنع قيام صداقة وثيقة مع  صديقة الطفولة وزميلة في الدراسة “ماري” التي مثلت علاقتنا نموذجاً للود والمحبة بعيداً عن أي اختلاف ديني.
في سنوات الدراسة الابتدائية والمتوسطة كنت أتردد باستمرار على بيت ماري بيتهم كان مفعماً بالدفء العائلي، ووالدتها تستقبلني بابتسامة صافية وتقدم لنا سمك الزوري المشوي على التنور. أما أخوها الأكبر فكان يدخل المنزل بابتسامة ودودة، يعاملنا بأدب واحترام بالغ، لم يكن الدين حاضراً في أحاديثنا أو تصرفاتنا، بل كانت القلوب تنبض بالمحبة الفطرية.
قرب بيت ماري، كان يقيم شيخ وقور يرتدي الملابس البيضاء ويعرف بلحيته الطويلة،اعتدنا أن نزوره انا وصديقتي “ماري” فنستمع إلى حديثه المليء بالحكمة والنصح، يدعونا دائماً إلى حب الناس ونبذ الكراهية، جلوسنا بقربه كان يمنحنا شعوراً بالطمأنينة وكأننا أمام جدّ حنون،
مرة في المدرسة واجهتنا حادثة سيئة جداً حين تلفظت إحدى الطالبات بكلمات مسيئة بحق زميلتنا  الأخرى”انتظار” بسبب ديانتها الصابئية، يومها بكت انتظار بحرقة، ووقفت انا ومن معي بجانب الزميلة”انتظار” فكنت انا وماري متألمات من قسوة الموقف،الإدارة تصدت للحادثة بحزم وأصدرت عقوبة بحق الطالبة المتجاوزة، لتؤكد أن المدرسة مكان للتربية على الاحترام لا للتفرقة، ورغم مرارة التجربة، كانت سبباً أن نطرح على أنفسنا أسئلة عن الديانات وخصوصياتها،
ومع مرور السنوات خاصة بعد عامي 2007 و2008، بدأ الوعي يتضح أكثر حول طبيعة الاختلافات الدينية، فهمت أن الحجاب ليس فريضة على الجميع، وأن ماري كانت ترتديه التزاماً برغبة من والدها، فيما يحتفظ الصابئة المندائيون بطقوسهم الخاصة في الزواج والعبادات. وبرغم هذه الفوارق، تبقى صداقتنا ثابتة، قائمة على الوفاء والمودة ونتشارك معهم المناسبات والأفراح، فيما ظل المعبد الصابئي القريب على منزلنا بمسافات ليست بعيدة شاهداً على هذا التعايش وفي موقف أخرى في المدرسة، عندما كانت الفتيات المندائيات يخرجن بهدوء عند درس  الإسلامية، أدركنا لاحقاً أن ذلك يعكس احتراماً لعقيدتهن وحرية لممارسة شعائرهن، لا انتقاصاً أو تمييزاً
هذه التجربة لم تبقى مجرد ذكرى، بل أصبحت جزءاً راسخاً من الوعي، ومع دخولي مجال الإعلام والعمل التطوعي والفن، وجدت من زملائي هم من ديانات ك المسيح والصابئة  يحملون الروح ذاتها التي عرفتها في بيت” ماري وأهلها” روح المحبة والتسامح والاستعداد الدائم للتعايش
إنها حكاية من العمارة، لكنها في جوهرها رسالة إيجابية عميقة ومفهوم الرسالة هي احترام الاختلاف والفطرة التي عشناها في طفولتنا، حيث كانت المحبة أصدق من كل المسميات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى