القرآن والسيرة ينظّمان حياتنا بين الفرح والحزن

بقلم : د. رعد هادي جبارة
الأمين العام للمجمع القرآني الدولي
خصوصية المفردة القرآنية (39)
🔹المقدمة:
يأتي هذا البحث استكمالًا لما بدأناه في دراستنا السابقة الموسومة بـ (كتاب الله ورسوله يدعو المؤمن للبشاشة والسرور)، والتي تناولت جانب الفرح في المنظور القرآني والنبوي باعتباره قيمةً إنسانيةً راقية تعبّر عن صفاء النفس وحسن الصلة بالله تعالى.
وقد ظن بعض الأعزاء، بعد نشر البحث السابق، أنّ الحديث عن البشاشة والسرور قد يُفهم منه أنّ المؤمن ينبغي أن يكون دائم الفرح، لا يعرف الحزن ولا البكاء، وهذا لم يكن مقصدنا ولا مراد بحثنا، إذ إنّ طبيعة الإنسان كما صوّرها القرآن الكريم تقوم على التوازن بين الانفعالات،
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ}
(النجم: 43)
فالحزن والفرح وجهان لتجربة إنسانية واحدة، ينظّمها الوحي، لتبقى معتدلة في حدود الحكمة والعبودية لله تعالى.
🔹□ الفرح والحزن في ضوء القرآن الكريم
إنّ القرآن الكريم حين يبيّن أحوال البشر، يضع لكل انفعال ضابطه الشرعي والأخلاقي، فينظّم الفرح كما ينظّم الحزن.
فعندما تحدّث عن انتصار الروم على الفرس قال ٲلـلَّـﷻـۂ:
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ}
(الروم: 4-5)،
فليس في فرح المؤمنين غضاضة أو إثمٌ، لأنّه فرح مشروع بنصر الحق.
وفي المقابل، يوجّهنا القرآن الكريم إلى أن الفرح المذموم هو الفرح المقرون بالغرور و الطغيان، كما في قصة قارون:
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: 76).
وقد فسّر العلّامة الطباطبائي هذا الفرح المذموم بقوله:
“فُسِّر الفرح بالبطر، وهو لازم الفرح والسرور المفرط بمتاع الدنيا، فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا يُنسي الآخرة ويورث الأشر.”
(الميزان،ج16،ص76)
كما يقول الشيخ مكارم الشيرازي في تفسيره:
“الفرح المذموم هو حالة من السرور المقرون بالطرب و الغفلة، حيث يستعمل الإنسان نعم الله في طريق الباطل. وشدة الفرح المفرط تُبعد الإنسان عن ربه وتمنعه من إدراك الحقيقة.”
(الأمثل في كتاب الله المنزل،ج15،ص324)
🔹فالفرح في القرآن إذن ليس مذمومًا في ذاته، وإنما يُمدح أو يُذم بحسب مصدره ونتيجته:
فإن كان ناشئًا من الإيمان وشكر النعمة، فهو محمود.
وإن كان ناشئًا من الكبر والغرور والغفلة عن الله، فهو مذموم.
🔹□في السيرةالنبوية
تحدّثت كتب السيرة و السنة النبوية عن مواقف متعدّدة تُظهر التوازن النبوي بين الفرح والحزن، وتجلّي إنسانية رسول الله ﷺ وآله في أبهى صورها.
فمن ذلك ما روي عن عودة جعفر بن أبي طالب (ع) من الحبشة، وأنّ النبي ﷺ وآله قام إليه واستقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبّل ما بين عينيه، وقال:
«لا أدري بأيهما أنا أشدّ سرورًا؛ بقدومك يا جعفر أم بفتح الله على أخيك خيبر؟»
(الخصال للصدوق 2: 82،وعيون أخبارالرضا 140)
وهي في روايةابن هشام:
«ما أدري بأيّهما أنا أُسَرّ: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟»
🔹وقد كان ضحك النبي ﷺ وآله في أكثر أحواله تبسُّمًا، فعن عبد الله بن الحارث قال:
“ما رأيت أحدًا أكثر تبسّمًا من رسول الله ﷺ وآله.” (الترمذي 194)
وقال أيضًا:
“ما كان ضحك رسول الله ﷺ وآله إلا تبسُّمًا.” (الترمذي 3642)
وفي بعض المواقف ضحك الرسول حتى بدت نواجذه، كما في حديث ابن مسعود:
“لقد رأيت رسول الله ﷺ وآله ضحك حتى بدت نواجذه.” (البخاري 6571، ومسلم 186)
وقد لخّص ابن حجر في فتح الباري (10/505) هذا التوازن بقوله:
“فضحك النبي ﷺ وآله حتى بدت نواجذه، ومع ذلك كان أكثر ضحكه تبسُّمًا لا قهقهة.”
وكان ﷺ وآله يقول:
«لا تُكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب.» (رواه الترمذي)
وفي المقابل حثّ على التبسّم فقال ﷺ وآله:
«تبسّمك في وجه أخيك صدقة»
(الترمذي 1956)
🔹وهذا يدل على أن النبي ﷺ وآله جمع بين بشاشة الوجه وجِدّ القلب، فكان دائم التبسم من غير إسراف في الضحك، وهي سمة الأنبياء جميعًا.
قال الله تعالى عن سليمان (ع):
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}
(النمل: 19)
قال السعدي في تفسيره:
“تبسّم سليمان إعجابًا بفصاحة النملة و نصحها، وهذا حال الأنبياء، لا يبلغ ضحكهم إلا التبسم.”
🔹وقد كان النبي ﷺ وآله يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويداعب أهله وأصحابه دون إفراط أو تفريط، مع أنه كان يحمل همّ الأمة ويعيش خشية الله آناء الليل وأطراف النهار.
🔹ومن دواعي فرحه ﷺ وآله:
☆زواجه من السيدة خديجة (ع).
☆ولادة أبنائه القاسم وإبراهيم وابنته فاطمة الزهراء (ع).
☆انتصارات المسلمين.
☆ولادة الحسنين وزينب (ع).
☆عودة جعفر ع من اليمن.
☆هلاك الطواغيت.
🔹أما مواقف حزنه ﷺ وآله فكانت عند:
&وفاة السيدة خديجة (ع) ورحيل عمه أبي طالب (ع)، حتى سُمّي العام بـ “عام الحزن”.
&وفاة ابنيه إبراهيم والقاسم.
&شهادة عمّه حمزة (ع)،
..وغير ذلك من المصائب التي واجهها بصبرٍ واحتساب.
🔹□ القاعدة العامة
إن المزاح والمداعبة من الأمور المحبّبة إلى النفوس، إذ تبعث على النشاط والإقبال على العمل بجدٍّ وطاقة. ولا حرج فيها ما دامت منضبطة بضوابط الشرع، لا يُرتكب فيها محظور ولا يُؤذىٰ فيها أحد.
🔹فالمؤمن يحتاج إلى فترات من الراحة ليجدّد نشاطه، وليس أدلّ على مشروعية المزاح من سيرة سيد الخلق ﷺ وآله ،الذي كان يمازح أصحابه ويداعب أهله دون أن يخرج عن دائرة الجدّ والوقار.
وقد أفرد الشيخ النوري في كتاب جواهر البحار بابًا بعنوان ضحك النبي (ص) و مداعبته للآخرين، جمع فيه أحاديث نادرة (من الرواية رقم 1230 إلى 1239) تبيّن هذا الجانب الإنساني النبيل في سيرته ﷺ وآله.
🔹□ الخلاصة □🔹
الضحك والفرح لا يتعارضان مع تقوى الإنسان وخوفه من الله تعالى، لأنّهما من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
قال ٲلـلَّـﷻـۂ:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ}.
قال ابن كثير في تفسيرها:
“أي خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما، وهما مختلفان.”
وقال الطبري:
“أضحك أهل الجنة في الجنة بدخولهم إياها،
وأبكى أهل النار بدخولهم فيها،
وأضحك من شاء في الدنيا
وأبكى من شاء.”
فالفرح والحزن كلاهما من سنن الحياة التي أرادها الله تعالى لعباده، ليبقوا بين الرجاء والخوف، وبين الشكر والصبر.
{وَلِله فِي خَلْقِهِ شُؤُونٌ}.
🔹ما رأيك أنت؟