أخبار دولية

مشكل التلوث ورقة في الأجندات السياسية وفي مشاريع المعارضات لا علاقة لها بالنفع العام


كتبت د ليلي الهمامي
أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن


مشكل التلوث ورقة في الأجندات السياسية، وفي مشاريع المعارضات، لا علاقة لها بالنفع العام، ولا بالمصلحة العامة . الكل يتابع ما يحصل في محافظة قابس من الجمهورية التونسية، حول موضوع المركّب الكيميائي المختص في تحويل الفسفاط؛ مشكل التلوث ومشكل الامراض المنتشرة. هذا يضعنا أمام معادلة صعبة، تخص كل العالم العربي، معادلة الصحة والاقتصاد: أي اختيار واي فصل يمكن ان يؤهلنا لحسم هذا الخيار الصعب بين الثروة والموت من جهة، وبين الفقر والصحة من جهة اخرى؟


تبدو المعادلات ممكنة وعبثية الى حد كبير.
بلدان العالم العربي، من اكثر البلدان تلوثا، اذا ما اعتبرنا تونس مثلا، وإذا ما اعتبرنا العراق، وخاصة اذا ما اعتبرنا لبنان من حيث مستويات التلوث على حدته وخطورته وعلى أشكاله وأنواعه … معادلة صعبة في الحقيقه، اذا ما ذكرنا بان أولوية التنمية والاستثمار في الصناعات، أكيد الملوثة والمنتجة والخلاقة لمواطن الشغل، أمر كان خيار مختلف البلدان العربية. الدول العربية اختارت التنمية وخلق مواطن الشغل بعد الاستقلال سنوات ال 50 وال 60 وفضلت هذا النهج.


ضروري أن نؤكد ايضا أنه لم تكن مسألة البيئة ومسألة الصحة مطروحة بهذه الالحاحيه على الساحه الدوليه. المسالة البيئية طرحت انطلاقا من ثمانينات القرن الماضي وفي الواقع منذ سبعينات القرن الماضي على وجه الخصوص. كان هنالك شكل من اشكال التنبيه في اطار اعمال الامم المتحدة والمنظمة العالمية للصحة، تنبيه الى مخاطر الاغذية غير الصحية، ومخاطر الصناعات الملوثة.


لكن، طرح الموضوع باكثر الحاحية خاصة خلال ثمانينات القرن الماضي.
البلدان العربية لم تكن مستعدة في الواقع لأن تضحي بفرص الشغل، لأن تضحي بالمناشط الاقتصادية والصناعية التي من شأنها أن تخلق الثروة من أجل المسألة الصحية. كأن قيمة الحياة بالنسبة للعرب لم تكن بتلك الاهمية التي تدفعهم الى التضحية بالفرص الاقتصادية، بالحظوظ الاقتصاديه، من أجل جودة الحياة، التي تحولت لاحدى مقاييس التصنيف العالمي للمجتمعات وللبلدان. لكن، في الواقع هنالك اشياء تنبه الى سوء تقدير، وسوء حكمه، في المثابره، في نهج التضحية بالصحة العامة، والمثابرة في الاقبال على هذه الصناعات التي تَخلَّص منها الغرب.


لابد من أن نذكّر ان المتروبولات الراسمالية العالمية تخلصت من الصناعات الملوثة. وهذا التخلص بالطبع من أجل ان يتم تركيز هذه الصناعات في بلدان المحيط -على حد عباره سمير امين-، بلدان المنظومة الافريقية او المنظومة اللاتينية الامريكية. وبكل تاكيد أن الموضوع اكثر تعقيدا، خاصة مع انكار دونالد ترامب والادارة الامريكية -الجمهورية- خاصة لموضوع التلوث، لموضوع اختلال التوازن البيئي… لكن بالنسبة للعالم العربي، المسألة أكثر احراجا، خاصة مع محدودية المدخرات و محدودية السياسات الموجهة للصحة ومحدودية الامكانات بالنسبه لجل البلدان العربية… لا أتحدث عن صنف معين، لكن اجمالا هنالك محدودية في الموارد المالية المرصودة لقطاع الصحة.


فقط مسألة المعادلة السلبية بين الصحة وبين الاستثمار الاقتصادي، ضروري ان تُراجَعَ. مؤشر بسيط يمكن ان ينبه الى هذه الضرورة، أو يؤكد على هذه الضرورة؛ أن بالنسبة للعالم العربي, سنويا يتم انفاق 141 مليار دولار على الصحة، جراء التلوث، جراء الغذاء غير السليم. يعني مسالة البيئة، ومسالة سوء الحياة، او غياب جودة الحياة يمثل نزيفا ماليا، من المفروض عقلانيا ان يوجه نحو الاستثمار في الصناعات، وفي القطاعات المحبة او الصديقة البيئه، القطاعات أو المناشط أو الصناعات الصديقة البيئة، المحبة البيئة، الملائمة للبيئة.


ضروري ان ننتبه الى التالي: لدينا إشكال حقيقي في مستوى التخطيط، في إدارة الفضاء العام داخل العالم العربي: منطقة سياحية يركز داخلها مصنع او صناعة ملوثة، تدمر القطاع السياحي، المحيط الطبيعي، والنسيج النباتي والبحري… لا نعلم بأي منطق يفكرون ويخططون في المنطقة العربية وفي العالم العربي بصفة عامة.


هنالك خلط، هنالك عشوائية في التصرف في الفضاء العام. إدارة الفضاء العام مسالة لا يمكن ان تكون محكومة بارادوية او باعتباطية، ليس فيها تدبير او حسن تدبير او تخطيط عقلاني… المناطق السياحيه لا يمكن في الواقع، ان تحاذي الا الصناعات غير الملوثة. وهذا أمر متّفق حوله في كل بلدان العالم. لا يمكن القبول بوجود صناعات ملوثة قرب منتجعات سياحية. في كل حالات العالم العربي، ندعو الى مطاردة اشكال التلوث، وإلى مقاومتها .


وحين اتحدث عن التلوث، أتحدث آليا عن النظافة؛ هذا جزء من السلوك الحضاري، هذا جزء من تثقيف المواطن العربي… طرحتُ هذه المسألة لأن المسألة بالفعل أصبحت عاجلة، ولأن المسالة تداخلت مع اجندات سياسية، وتداخلت مع مشاريع لبعض المعارضات، لا علاقة لها بالنفع العام، ولا علاقة لها بالمصلحة العامة… نفكر وأفكر، من منطلق البحث عن حلول… حلول بكل شجاعة، تضعنا أمام مجازفات، وتضحياتهم ايضا. مَن يريد أن يُصلح الاوضاع العامة، عليه ان يكون شجاعا، وأن يطرح التضحيات التي من المفروض أن تكون الكلفة الطبيعية لكل تغيير جدري.


اقول هذا بعيدا عن الايديولوجيا، بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة، لأنه دون ذلك، لن يصلح حالنا واجيال الصاعدة، أجيالنا من الشباب ومن الاطفال، الاجيال القادمة ستكون مريضة، ستكون معلولة ستكون مسرطنة، ستكون عليلة، ولن تكون قادرة على كسب الرهانات القادمة، في عالم متقلب، متى كانت مريضة، متى كانت عليلة، متى كانت غير مؤهلة، جسديا لأن تحتوي نفسا سليمة ما دام جسمها مريض…


هذا ما أردت ان أقوله، وأن اقول بأن حل مشكل البيئة في كل العالم العربي، ضروري ان يكون في إطار شراكة بين السلطة والمعارضة، شراكة بين السلطة والنقابات. هنالك ملفات لا مجال لان تخضع لذلك التقسيم الكلاسيكي بين سلطة ومعارضة وبين حكم سياسي وبين نقابات ومجتمع مدني. هذه ملفات لابد من أن تحسم، لأنها ملفات ذات طابع تاريخي. لا يمكن أن نغض الطرف عن هذا الاعتبار.


لا يمكن ايضا كسب نجاحات على حساب هذه الملفات… هذه ملفات تحتوي على مستقبل أجيال، مستقبل أمة. هذه سلامة الصحة العامة… ليست هي من الملفات التي يمكن ان يزايَد فيها… هذا أمر مرفوض!!! علينا ان نفكر بهدوء، علينا أن نكون جميعا على استعداد لتقديم التضحيات الواجبة، من أجل العبور الى تكنولوجيا غير مدم للبيئة وغير مضرة لصحة الانسان.
ليلى الهمامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى