نظرية (خوش آدمي)

كتب : جعفر العلوجي
آليتُ على نفسي في هذه المرحلة المصيرية الحرجة جدًا أن أبتعد عن السياسة وكل ما يدور في فلكها ، لا من بعيد ولا من قريب فكل ما نجنيه منها نحن البسطاء هو مزيد من الضغط ، والمرض ، والشد العصبي مع كل من نلتقيه .
لكن ما إن تخرج لتتمشى قليلًا ، أو تستمتع بنسمة خريفية منعشة ، حتى تفاجئك آلاف البوسترات الانتخابية التي تزاحم أنفاسك على الأرصفة وجوه ترتدي ربطات عنق وابتسامات مصطنعة ، وشعارات كلاسيكية أكل عليها الدهر وشرب ، منذ أيام الراحل فريد شوقي وأهزوجة (تنتخبوا مين؟) .
وما أن تمشي خطوات قليلة ، حتى يقتنصك أحد الأصدقاء أو الجيران ، ليسألك بسذاجة مقصودة :
“منو راح تنتخب؟”
ترد – كأي مواطن متردد مثقل بالخيبات –:
“ما قررت بعد ، بعدني محتار”
لكن صاحبنا يبتسم ابتسامة صفراء ، فيها من الخبث أكثر مما فيها من البراءة ، ثم يهمس وكأنه يقدم لك اكتشاف القرن :
“عدنا واحد خوش آدمي ، فقير وما ياكل حرام … بس إنت بكيفك!”
عندها تفقد أعصابك وتقول في نفسك :
هل يكفي أن يكون المرشح “خوش آدمي” حتى يصلح بلداً مثقلا بالأزمات؟
وإن كان “خوش آدمي” فعلا ، فماذا يفعل وسط دهاليز السياسة ومستنقع المناصب ؟
هذه المشاهد تتكرر يوميا ، وكأننا أسرى لحالة عامة من الضبابية نعيشها جميعا .
شعب يعرف كل شيء من ألف البرلمان إلى يائه ، ومن يديره ، ومن يحركه ، وما دور الكتل وقوتها وتأثيرها ومع ذلك ، عيد ذات الدورة كل مرة ، ونقنع أنفسنا بأن “الخوش آدمي” هو الحل .
لكن الحقيقة أبعد من تبليط شارعٍ فرعي ، أو نصب مولدة، أو مدّ أنبوب ماء ثقيل .
المسؤولية أكبر ، والمشهد أخطر ، ولا يمكن اختزاله في شهر من الدعاية الانتخابية البائسة ، ولا في مرشحين صار ظهورهم نسخة مكررة بين :
من يرتدي القاط والرباط (أبو أربعين ألف)،
وتلك المرشحة التي أخضعت صورتها لكل فلاتر الكون لتبدو كعارضة أزياء فرنسية !
يا سادة ، لا يمكن تقزيم عقولنا وتصوراتنا إلى هذا الحد
السياسة ليست اختبارا في “الأخلاق الشخصية” بل مسؤولية وطنية ، تحتاج كفاءة ، وجرأة ، ووعيا بمصالح الناس .
أما “نظرية خوش آدمي” فهي باختصار واحدة من أخطر الوصفات التي أدمنا تكرارها دون أن نتعلم من نتائجها .



